ثقافة وفن

لغتنا الأم العربية الفصيحة … لا يظننَّ أحد أن التمسك باللغة الأم يعني الحؤول دون احترام اللغات الأخرى وتقدير إسهاماتها

| أ‌. د. محمود أحمد السيّد

دعت المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) الدول الأعضاء فيها إلى أن يحتفي كل منها بلغته الأم في الحادي والعشرين من شباط حفاظاً على التنوع الثقافي والتعدد اللغوي على الصعيد العالمي في ظل عولمة تروم فرض اللغة الإنجليزية على حساب لغات المجتمعات الأخرى وذاتيتها الثقافية، مع أن المجتمعات في عالمنا تتعامل مع العولمة العلمية والتقانية والاقتصادية، وتتفاعل معها بلغتها الأم كما نجد ذلك لدى اليابانيين والصينيين والكوريين والألمان والفرنسيين والإيطاليين وحتى إسرائيل العنصرية أحيت اللغة العبرية الميتة منذ ألفي سنة، وأعادتها إلى الحياة في جميع شؤون حياتها، وها هي ذي جامعتها العبرية ولم تسمّها الجامعة الإسرائيلية أو اليهودية، وإنما سمّت الجامعة الأولى لديها الجامعة العبرية نسبة إلى لغتها العبرية، ولا يوجد في إسرائيل مدرسة واحدة تدرّس بغير العبرية بدءاً من رياض الأطفال وانتهاء بالدراسات العليا والبحث العلمي.
وشتان بين ماضي أمتنا إبان ألقها الحضاري عندما أسهم علماؤها في مسيرة الحضارة البشرية في ميادين الطب والفلك والرياضيات والكيمياء والفلسفة… الخ بلغتهم الأم العربية الفصيحة، وبين ما يجري حالياً على صعيد الساحة القومية من محاصرة للغتهم الأم والسعي إلى استبعادها وتهميشها لا من أعدائها الخارجيين فقط، وإنما من نفر من أبنائها الذين فتر الانتماء القومي لديهم، فانطلقت نغمات النشاز من هنا وهنالك تدعو إلى استعمال اللغة الكونية أي الإنجليزية أو الفرنسية في تدريس العلوم والطب والهندسة بحجة عدم قدرة العربية على القيام بهذا الأداء متناسين ألق التجربة السورية الرائدة في مجال التعريب على مدى قرن كامل، ومتجاهلين مخرجاتها الجامعية التي أثبتت جدارتها وكفايتها وإبداعها على الصعيد العالمي، وهذا أمر بدهي لأن من يتلقى المعرفة بلغته الأم يستوعب ويدرك ويتمثل أكثر ممن يتلقاها بلغة أخرى كما أثبتت الدراسات العلمية.
ومن هنا كان علينا أن نتمسك بلغتنا الأم ونصونها بسواد القلب والهدب على حدّ تعبير أستاذنا المجمعي الكفي والقدير المرحوم عبد الكريم اليافي، وقد تغنّى بلغته الأم في مواضع كثيرة منها:
أيا لغة القرآن أنت حياتنا
ومرآتنا فيما نقول ونفعلُ
وسعت كنوز الأرض علماً وحكمةً
فما لغة في الأرض إياك تعدل
ومن البدهي أيضاً أن يكون أبناء الأمة أبناء بررة بارين بأمهم التي تحوطهم بكل محبة وعطف وحنان، وتضمهم إلى صدرها، شأن الأم التي تحدب على أبنائها، وتغمرهم بحنانها، وتوحّد بينهم في جو من المحبة الوئام.
ولا يمكننا أن ننسى القول الموضوعي للسيّد «بونور» مدير المعارف العام في المفوضية العليا إبان الانتداب الفرنسي على سورية عندما خاطب أساتذة الجامعة السورية إبان إنشائها في عشرينيات القرن الماضي قائلاً: «لقد أردتم أن تكون اللغة العربية الفصيحة أداة الثقافة، ولستم مخطئين في اختياركم لها، وكونوا واثقين أنكم أحسنتم صنعاً بانتقائها، لأن من يزعمون أن اللغة العربية غير صالحة للتعبير عن مصطلحات العلم الحاضر هم على خطأ مبين، فالتاريخ يثبت أن لغة الضاد كسائر اللغات الأخرى غنية باشتقاقاتها، وكافية بكثرة تراكيبها، للتعبير عن الأفكار الجديدة والارتباطات الحديثة التي تربط تلك الأفكار، فإن فلاسفة العرب حينما نقلوا في القرن التاسع إلى لغتهم رسائل أرسطو طاليس تمكنوا من نقل العلوم كما في عهد ابن سينا والغزالي وابن رشد، فما من ينكر والحال هذه أن اللغة العربية صالحة لمماشاة اللغات الأخرى والتعبير عن المصطلحات العلمية الحديثة.
وإن تبنيكم اللغة العربية دليل على حذاقتكم، فظلوا محافظين على هذه الأداة البديعة التي نحن مدينون لها بكثير من الأعمال الباهرة، وبعدد من الأشكال الجميلة التي تجلى بها الفكر البشري، وإنني أهنئ العرب، وأتمنى ألا يضيعوا هذا الاحترام المقدس للغتهم، لأن من يدافع عن لغته يدافع عن أصله، وعن حقه، وعن كيانه، وعن لحمه ودمه، وإنكم تفهمتم هذا الأمر جيداً».
وإذا كانت منظمة اليونسكو قد دعت إلى الاحتفاء باللغة الأم انطلاقاً من إيمانها بالتنوع الثقافي والتعدد اللغوي، وكانت فرنسا تدّعي أنها متحمسة لإنفاذ ذلك، فإن المنظمة رضخت للضغوطات الأميركية في ظل العولمة اللغوية وهيمنة اللغة الإنجليزية على الصعيد العالمي، ونجحت هذه الضغوط في تعديل قرار المنظمة الدولية المتعلق باللغة الأم على أساس الاحتفاء بلغة الأم لا اللغة الأم، وإذا هي تعلن أن الحقوق اللغوية تنحصر في ثلاثة أمور هي:
الحق في لغة الأم وليس اللغة الأم
الحق في لغة التواصل في المجتمع

الحق في لغة المعرفة
وتعني هذه الحقوق فيما يتعلق بالأمة العربية كما خطط أعداؤها:
لغة الأم هي اللهجة العامية أو إحدى اللغات غير العربية على الأرض العربية.
ولغة التواصل هي اللهجة العربية الدارجة
ولغة المعرفة العلمية هي الإنجليزية أو الفرنسية.
وتجدر الإشارة إلى أن ثمة فرقاً كبيراً بين لغة الأم واللغة الأم، فلغة الأم هي اللهجة العامية الدارجة أو لغة بعض الشرائح الوطنية في نسيج الأمة العربية مثل الأمازيغية والأرمنية والشركسية، في حين أن اللغة الأم هي العربية الفصيحة لغة القرآن الكريم واللغة الموحّدة والموحّدة على الصعيد القومي، فهي الرابطة التي تجمع بين أبناء الأمة في منأى عن الأنساب المفرّقة على حدّ تعبير الشاعر بدوي الجبل رحمه اللـه إذ يقول:

للضاد ترجع أنساب مفرّقة
فالضاد أحسن أم برّة وأب
ولا يظننَّ أحد أن التمسك باللغة الأم يعني الحؤول دون احترام اللغات الأخرى وتقدير إسهاماتها في مسيرة الحضارة البشرية وحق أبنائها في الاحتفاء بها، إلا أن ذلك لا يكون على حساب اللغة القومية الجامعة والموحّدة، ألا وهي العربية الفصيحة، في الوقت الذي ندعو فيه أبناء الأمة كافة إلى اكتساب اللغات الأجنبية والتمكن منها خدمة للغتهم الأم وإغناءً لها، ورحم اللـه شاعرنا العربي القائل:
بقدر لغات المرء يكثر نفعه
وتلك له عند الشدائد أعوان
فبادر إلى حفظ اللغات مسارعاً
فكل لسان بالحقيقة إنسانُ.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن