قضايا وآراء

حق العودة أم عودة الحق؟

| د. يوسف جاد الحق

يطل علينا دهاقنة السياسة، وأساتذة التآمر من حين إلى آخر بمصطلح مبهر في ظاهره، ثم لا يلبث هذا المصطلح أن يغدو قيد التداول من دون تمحيص وتدقيق في أبعاده ومراميه إلى أن يستقر في الأذهان، ويصبح مطلباً ينتظر تحقيقه على أرض الواقع، وما هو في حقيقته غير سراب يحسبه الظمآن ماء، أو هو في حقيقته غطاء لهدف خفي يرمون إليه في نهاية المطاف، ومن الطبيعي، أن تلعب وسائل التواصل التي يوظفها أولئك في الترويج والتسويق ابتغاء الوصول إلى ذلك الهدف المنشود.
من هذا القبيل مصطلح «حق العودة» الذي ما انفك بعضهم يردده عن جهل بمراميه البعيدة، وبعض عن وعي ومعرفة، لضلوعه في المسألة تحقيقاً لمنافع ذاتية على حساب الوطن والشعب.
«حق العودة» قرار صدر عن هيئة الأمم المتحدة عام 1948 تحت رقم 194، ويتبين الآن، بعد كل هذا الزمن أن هدف من عملوا على صياغته إنما أرادوا صرف النظر عن المطلب الحقيقي الذي هو «عودة الحق»، أي عودة فلسطين كاملة لأهلها وعودة أهلها إليها، وخروج الطارئين عليها منها ليعودوا هم من حيث أتوا.
أعرف أن مقولتي هذه سوف تقع على رؤوس بعضهم كالصاعقة، ذلك أنه ألقى في روع الشعب الفلسطيني في الشتات عامة بأن هذا قرار سوف يجد طريقه إلى التنفيذ، على حين أنه كان حائلاً بينهم وبين العودة المنتظرة، وإلا فليقل لنا أحد كيف تمضي سبعة عقود ونيِّف على صدوره من دون «عودة» لأحد سوى «جماعة أوسلو» الأشاوس!
قولنا «حق العودة» يختلف تماماً عن قولنا «عودة الحق» هذه الأخيرة تعني عودة فلسطين الـ«27500كم2» كاملة، فهي بكل ما فيها وما عليها حقنا غير المنازع، أما كلمة «حق» فهي تعبير عن جزئية لكونها حقاً واحداً من حقوق كثيرة تجمعها كلمة «الحق» الشاملة لكل فلسطين وشعبها في داخلها وخارجها.
إن مطالبة إسرائيل «بالسماح» بالعودة لفلسطينيي الشتات هو استجداء، أو هو رجاء أو هو «تكرّم» منها بالموافقة عليه، «وحتى هذا برغم المآخذ عليه لم يحدث».
نحن بمطالبتنا العدو «بحق العودة» للموافقة عليه فذلك إقرار من جانبنا «بمشروعية» الوجود الإسرائيلي على أرضنا، أي اعتراف بالأمر الواقع القائم وإقرار بحقها في البقاء، ومن حقها أن تسمح وألا تسمح، ولا يفوتنا هذا التذكير بتلك المقولة الأميركية القديمة منذ عهد الرئيس الأميركي السابق هاري ترومان بأن «إسرائيل وُجدت لتبقى»! ونحن قد عرفنا بالتجربة أن قرارات هيئة الأمم المتحدة فيما يخصنا ليست أكثر من حبر على ورق، لا يهدف إلا لتخدير وصرف النظر عما يجري هناك في وطننا من ممارسات ترسخ الوجود الإسرائيلي من جانب، وضياع وطننا إلى الأبد من جانب آخر.
عندما نطالب «بحق العودة» فلمن نتوجه بهذا المطلب؟ إلى إسرائيل أم إلى تلك الهيئة صاحبة القرار الذي لم يحظ باحترام أي منهما، ناهيك عن العمل على منع تنفيذه؟
على سبيل المثال نذكر أن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس عندما زار مدينته صفد منذ فترة أجاب الصحفي اليهودي السائل عما إذا كان يحق له المطالبة بالعودة للإقامة في صفد، أجاب عباس بأنه يشكر «إسرائيل» على «سماحها» له بزيارة بيته في صفد، ولكنه لا يحق له المطالبة بالإقامة فيها، لأن الواقع القائم يحول دون ذلك؟ بمعنى أن هذا المطلب غير عملي!
كما نذكر أن إسرائيل في مرحلة مفاوضات «أوسلو» أبدت «موافقتها» الكاذبة على عودة خمسة آلاف فلسطيني كل عام، فلنتصور كم من القرون علينا أن ننتظر لعودة ملايين من الشعب الفلسطيني الذين هم خارجها، على فرض جدلي بصدق النية، الأمر المستحيل أخذه في الاعتبار من جانب عدو عرف بالخديعة والمكر واللعب على الأقوال والشعارات، ونحن لا ندري لماذا لم يقطع المفاوض الفلسطيني «مفاوضاته» معهم عندئذ لينسحب موفراً علينا كل ما جلبته «أوسلو» من ويلات وتبعات وتداعيات، ليس أهونها ما عرف بـ«التنسيق الأمني» تحت إشراف الجنرال الأميركي دايتون ولمصلحة الأمن «الإسرائيلي» بطبيعة الحال، وليس الأمن الفلسطيني أبداً.
منذ أسابيع أعلن رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه حتى لو حدث من وافق على عودة أحد فلن يكون ذلك لغير من كانوا فيها قبل عام 1948، أما أولادهم فكيف يعودون إلى مكان لم يكونوا فيه أصلاً! هذا يعني بطبيعة الحال والأشياء والوقائع أن عامل الزمن كفيل بتصفية هذه المسألة في بضع سنين، إذ إن معظمهم رحلوا عن هذا العالم ومن بقي منهم على قيد الحياة فقد بلغ من العمر أشده ويوشك أن يلحق بهم، ومنهم أبو مازن وجيله بالكامل.
من هنا فإننا نرى أن الموقف الحق السليم، الوطني والقومي والأخلاقي المتوجب علينا اليوم، وفي غمرة كل ما يجري على الساحة العالمية والإقليمية، هو السعي والعمل على استعادة الحق الفلسطيني إلى أصحابه الذين هجّروا عن فلسطينهم قسراً، بالتآمر الدولي والعدوان «الصهيو أميركي أوروبي» غير المسبوق، ومن ثم عودة أهلها الذين كانوا على أرضها منذ فجر التاريخ، أي عودة الشيء إلى أصله، وإزالة ما طرأ عليها منذ عام 1948.
رب قائل يقول: إن هذه «طوباوية» خيالية، وإن هذا منطق يجافي الواقع القائم على الأرض، لمن كان هذا شأنه القول: إن واقعاً بني على الظلم، وقام على العدوان والإجرام لا يكسب الجاني حقاً، ولا يعني تهاون صاحب الحق في حقه، أو إحجامه عن العمل على استعادته، وفوق ذلك إيقاع العقاب على فاعله، تقول بهذا شريعة السماء وقوانين الأرض كافة.
من هنا لا ينبغي أن يساور أحد الشك بأن ما نقول به ولابدّ أن يتحقق في وقت أقرب مما يتصوره الكثيرون، فالوقائع والأحداث التي جرت على مدى العقود الماضية، والجارية اليوم، بوجهيها السلبي والإيجابي، تؤكد هذه الحقيقة وتفضي إلى استخلاص هذه النتيجة.
إن المطالبات التقليدية، والاستجداءات المهينة، والمفاوضات باسم «السلام الكاذب»، لا شيء من هذا يعيد إلينا حقاً قط.. وإن هو إلا إضاعة المزيد من الوقت إذ إن الزمن يخدم العدو العامل على تهويد البلاد وإخراج العباد بالقتل أو «بالترانسفير».
النضال والمقاومة، والإعداد لحرب التحرير الشاملة للوطن المغتصب والأراضي العربية المحتلة، الأمر الذي أثبتت صحته الوقائع والأحداث، وفيما قام به ولا يزال يعمل عليه حلف المقاومة، سورية وإيران والمقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية حتى الآن، خير دليل على صحة هذا التوجه وسلامته.
بغير هذا لا يعود «الحق» الذي هو «فلسطين بكاملها» إلى أصحابه الشرعيين أبداً، فلا الكلام المنمق، ولا بلاغة الخطب العصماء ولا الصياغات الإنشائية «الجميلة»، لا شيء من هذا يغير قيد أنملة من واقع سيئ ظالم جاثم على أرضنا. بالمقاومة وحدها يستعاد الحق، فتعود البلاد إلى أهلها، ويعود أهلها إليها فاتحين منتصرين مرفوعي الهامات والقامات.
«عودة الحق» إذاً هي المرتجاة أيها الأخوة، وإنكم عائدون لا محالة وإن غداً لناظره قريب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن