ثقافة وفن

عميد المعهد العالي للفنون المسرحية والتجربة الأكاديمية … د. ماهر خولي لـ«الوطن»: المعهد لا يقبل إلا من لديه الموهبة والتجربة وعلى الرغم مما قيل عنه يبقى معلماً ثقافياً

| سارة سلامة - تصوير: طارق السعدوني

هدوء ورصانة وحنكة وخبرة حياة جعلته موجوداً في العمق الثقافي السوري. مودعاً مهنة طب اختارها كهواية ربما عن طريق الخطأ، لم يستطع أثناءها إهمال الشاعر الذي يسكن ذاته ويسيطر على أفكاره صادحاً بصوت يملأ المكان، ويجعله يغير اهتماماته نحو الثقافة والإعلام لأنه يعتبر أن الثقافة هي الإناء الأكبر والأقرب إلى الوسواس الذي ينخر الجسد والروح. فما لبث أن ذهب تجاه الصحافة بشقيها المكتوب والمرئي لتضعه في مكان آخر، ويجد نفسه في غمار الإدارة يحقق إنجازاً مهماً من خلال قناة «تلاقي» التي حملت تجربة جديدة وأملاً فريداً في العمل الإعلامي السوري لإيمانه بأن للإعلام أهدافاً سامية وكان على ثقة أن مشروعه هذا سيحلق بعيداً لولا ظروف أدت إلى إغلاق القناة.
الآن نراه في المعهد العالي للفنون المسرحية، هو مكان يعرفه جيداً طالباً وأستاذاً ومديراً ينتظره الكثير والكثير للارتقاء بمستوى المعهد ونفض غبار حرب أرخت بظلالها عليه أيضاً. هي مرحلة يودع فيها المعهد عهداً ويستقبل إشراقة جديدة تحمل الكثير من الأمل، جعلتنا نلتقي خولي الذي أطلعنا على جوانب عديدة من حياته في هذا الحوار..

خرجت في قناة «تلاقي» عن التقليد الذي كان متبعاً في التلفزيون السوري!
تجربة إطلاق القناة كانت مختلفة، وأتيح لأسرة القناة ظروف عمل مميزة بجهود الفريق الذي أمثل أنا جزءاً منه. انطلاقاً من أفكار تؤمن بأن للإعلام دوراً لا بد أن يقوم به خاصة في الحرب. من خلال جيل الشباب حيث كان متوسط أعمار العاملين في القناة 25 سنة.

لم تتكئ القناة على وجوه مطروقة بل عملت على ولادة وجوه جديدة وغير مألوفة؟
انطلقنا بمبلغ يقارب 4 ملايين ليرة سورية ومن الإمكانات المتاحة في التلفزيون السوري على مستوى الكادر البشري والتقني. كانت فرصة لتقديم شيء مختلف ونجرب أدوات وطرق تفكير جديدة، ولكن إلى أي درجة نجحنا؟ ذلك يتطلب معايير ولجاناً وما زال باكراً الحكم على تجربتنا. وعلى الرغم من أننا توقفنا منذ سنتين إلا أنني ما زلت أنا وزملائي نحصي وفق ميزان دقيق المزايا والمساوئ لأنها وسيلة عامة أو منتج عام والحكم عليه يكون من الناس.

في الوقت الذي كانت تضيق خيارات التلفزيون السوري كانت خياراتكم واسعة، واستطعتم كسر حدة المذيع السوري؟
ما كان يقدم هو ناتج طبيعي وحصيلة وجدوى لطريقة التفكير، وقدمنا في تلك المرحلة أقصى ما يمكن تقديمه بناء على ما توافر من إمكانات، كما أن الشرط المالي للعاملين لم يكن شرطاً جيداً، إضافة إلى ظروف البلد العامة والحرب، وننظر إلى هذه التجربة بكثير من الحنين والرضا عن النفس، ولم يكن بالإمكان تقديم الأفضل على ضوء ما هو متوافر.

كيف كان التأثير على مستوى الجمهور؟
عبرنا عمّا يرغبه الناس في مناخ الحرب من خلال مواد شائقة لها قيمة فكرية وفنية، رغم المصاعب فمزاج الناس كان في مكان آخر، والمواد التي كانت تقدم بعضها كان نافراً ولم ينسجم بالمطلق مع مزاجهم، وكان ذلك أشبه بمغامرة.
إذاً الطريق لم يكن مفروشاً بالورد وفي كل لحظة كانت هناك مستجدات على الأرض ونحتاج إلى مواءمة بين تقديم مواد مختلفة فكرياً وفنياً وبين الأثر الذي يتركه ما يحدث.
وأرى أن نسبة الرضا والقبول كانت جيدة، فهناك إحصاءات تفيد بأن «تلاقي» كانت القناة الرابعة أو الخامسة عربياً على مستوى المتابعة من خلال صفحة «الفيسبوك» حيث وصل عدد معجبيها إلى ما يزيد على 4 ملايين.
ماذا لو بقيت «تلاقي» إلى اليوم؟
كان يمكن لها أن تلقى مناخاً أفضل في هذه الأيام.

هل تم التضحية بالقناة؟
لا أستطيع الإجابة عن هذا السؤال لأنني لم أكن مخيراً في إيقافها. هناك معنيون هم الذي اتخذوا القرار في ذلك الصباح الحزين من 14/10/2016.

ما كانت ردة فعلك؟
تشهد حالة الحزن التي سادت في الطابق الثالث في مبنى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون على عمق ما أحسسنا به لحظة إغلاق القناة. وخاصة أننا كفريق آمنا بفكرة التلاقي وعملنا لتحقيقه. شعرنا وما زلنا نشعر بالحزن لإغلاق قناة عملنا عليها من الفكرة إلى التجسيد على الشاشة.

ما الهدف الذي رميتم إليه من دخولكم «غينيس»؟
دخول سباق «غينيس» لم يكن غاية في حد ذاته بل كان وسيلة، الهدف منها إيصال رسالة عامة ووطنية أن هذا البلد لا يزال حياً ويمتلك طاقات وإمكانات بشرية تستطيع أن تقدم منتجاً لا يقل أهمية عن أي منتج على مستوى المنطقة العربية والعالم. ونبين أن هذا البلد جزء أساسي من الخريطة الإنسانية إن لم يكن طرفاً فاعلاً ومؤسساً لها، واختباراً لأدواتنا المهنية ولإرادة العاملين جميعاً.

هل يمكن لهذا المشروع أن يرى النور مجدداً؟
لست من أنصار البكاء على الإطلال وربما من الصعوبة تكرار التجربة نفسها لأن الظرف تغير. تجربة إطلاق قناة تلفزيونية يحمل الكثير من المغامرة والمخاطرة. وإذا لم نمتلك الأدوات بشكل جيد فلا داعي لخوض غمار تجربة كهذه فالإعلام كان وسيبقى بحاجة إلى إمكانات مادية بالدرجة الأولى.

إذاً الإغلاق كان لأسباب مادية؟
هكذا قيل لنا ولأن الأسباب كانت مادية فيجب التحسب في المرات القادمة عندما نطلق قنوات نتحسب للجانب المادي كي لا نقع في الخطأ نفسه مرتين. ومن الممكن بعد انتهاء الحرب بكل أشكالها العمل على مشروع وأنا على يقين أننا نمتلك عنصراً حاسماً ومهماً وهو الكادر البشري.

بعد «تلاقي» ذهبت إلى مؤسسة الإنتاج التلفزيوني ولكنك لم تمكث طويلاً، ماذا استطعت أن تفعل؟
مررت مروراً عابراً وكان هناك مشروع غايته النظرية على الأقل أن نرتقي بالدراما السورية ولاسيما أننا مؤسسة حكومية ولكن الوقت لم يسعفني ولم يكف لإقرار مشروع خاص.

لم تتجاوز ربما 4 أشهر لماذا؟
لا تعليق… ذهبت إلى المؤسسة بقرار وأعفيت منها بقرار، 4 أشهر لم تكن كافية للاطلاع على ظروف المؤسسة ولاسيما الجانب التسويقي. وأعتقد أنه كان سيدفع بإنتاجات المؤسسة إلى الأمام، فما تنتجه المؤسسة ليس أقل شأناً مما تنتجه الشركات الخاصة، ولكن أدوات الفكر التسويقي تحتاج إلى دعم ووضوح رؤية ومغامرة، وحينما دخلت المؤسسة كانت القرارات متخذة بالنسبة للأعمال التي ستنتج ولم يكن لي قرار حاسم ونهائي إلا في عمل واحد.

أيحزنك أنك لم تحقق شيئاً؟
كنت آمل أن يكون المنتج الدرامي الحكومي السوري في وضع أفضل بالفترة التي كنت أدير فيها المؤسسة. ربما لم أكن لأنجح ولكن على الأقل كنت حكمت على ما كنا نفكر به كفريق ضمن المؤسسة. وكل من يعمل بالشأن العام عليه أن يكون مستعداً في كل لحظة ليذهب أو يأتي، وما يتركه الشخص من أثر يقدره الآخرون، نحن نعمل ولسنا أصحاب قرار في الاتجاهين الذهاب والعودة.

نعلم أن بداخلك شاعراً يخيفك، لماذا؟
لدي 3 مجموعات شعرية مطبوعة سنة 1994 واثنتان تحت الطبع. كانت البداية مع الشعر. ولكن الصحافة أخذتني بشقيها المكتوبة لزمن طويل والمرئية حيث أشرفت على إعداد البرامج وبعدها اتجهت للإدارة، الشعر شغف شخصي يخيفني أكثر من أي جانب.

لماذا؟
لقب شاعر أخطر بكثير من لقب مدير، الشهادة فيه لا تأتي من الشخص ذاته، فالشعر لا يدرّس بل يحكم عليه من المتخصصين في هذا الشأن. ويمنح اللقب من الآخرين. والعمل بالجانب الإداري يسرق الشخص من الكتابة الإبداعية التي تحتاج إلى تفرغ وشرط موضوعي مختلف.

درست طب الأسنان أين أنت من هذه المهنة؟
ربما ذهبت إلى طب الأسنان عن طريق الخطأ وهذا لا يعني أنني لا أحترم هذه المهنة بل على العكس هي أقرب للهواية. وبدأ هذا الاهتمام يخف منسوبه مع تزايد منسوب الاهتمام بالشؤون الثقافية. ربما أخطأت قليلاً بحق طب الأسنان عندما انحزت باكراً تجاه الثقافة والإعلام، ودرست في المعهد العالي للفنون المسرحية 4 سنوات وعدت للتدريس فور تخرجي، ومارست مهنة الطب حتى بداية الحرب وتوقفت لأسباب قاهرة.

ما الشيء الذي يدفع طبيب أسنان إلى التخلي عن عمله؟
الثقافة ومن ضمنها الإعلام هي أقرب إلى الوسواس ومسلة دائمة في الجسد والروح. ولطالما كنت ميالاً وفرحاً وشغوفاً بهذا التعب الذي يأتي من الثقافة أكثر من الراحة المنشودة في مهنة طب الأسنان، هي ورطة تتمكن من الأشخاص لا يستطيع المرء الفكاك منها بسهولة.
والآن في المعهد العالي للفنون المسرحية، ما خططك المتبعة؟
حافظت على كل الاتفاقات المبرمة مع الأساتذة في المعهد ولم يكن هناك مجال واسع للتدخل سواء في المجال العلمي أم الجوانب الأخرى. مع فارق أنني أعرف هذا المكان جيداً بصفتي خريجاً وأستاذا فيه لزمن طويل، ولكني أحتاج إلى معرفته كمدير وليس كطالب أو مدرس. بيد أن المادة الأساسية في المعهد هي الطالب وكل ما يمتلكه المعهد من إمكانات علمية ولوجستية يجب أن تسخر لخدمته.
المعهد مؤسسة تحتاج إلى المزيد من الجهد وعلى الرغم مما قيل عنه من سلبيات فإنه يبقى معلماً من معالم الثقافة، ونعمل جميعاً للحفاظ على هذه السمعة والبناء عليها. وسنسعى خلال الفصل الثاني إلى ترميم الثغرات في الجوانب كافة. إن بقينا حتى العام الدراسي القادم فسيكون قد مضى وقت كاف لرصد ما يحتاجه المعهد.

كيف كانت حالة المعهد فور قدومك إليه؟
لا نستطيع أن نقول إن المعهد بعد 8 سنوات حرب بقي على ما يرام، فشظايا الحرب تناثرت في كل الاتجاهات، ومرت أيام انهالت القذائف العدوانية على المعهد.
والآن اختلف الزمن قليلاً وأصبح أكثر هدوءاً واطمئناناً. وهناك نيات طيبة من وزير الثقافة محمد الأحمد ومن العاملين في المعهد لتحسين صورته فهو يمتلك بنية بشرية جيدة وسنعمل ضمن رؤية الفريق لنرى نتائج هذا العمل في الفترة القادمة.
وتقاس النتائج عندما نرى خريجي الأقسام الخمسة في المعهد لديهم ظروف وفرص عمل ويعملون ويصلون إلى مرحلة إبداعية ومهنية جيدة.

منذ 7 أو 10 سنوات لم يأت إلى المعهد مدرس جديد لماذا؟
يعتمد المعهد كبقية الأماكن الأخرى في سورية على الخبرات الوطنية ونطمح في الفترة القادمة إلى الاستعانة بخبرات من الخارج. ولاسيما اختصاصات الرقص والموسيقا.
والمعهد لا يشتكي من فقدان أو غياب المدرسين لأن من تخرج على أيدي الخبرات الأجنبية يعمل الآن في المعهد. وكانت سنوات الحرب فرصة لاختبار إمكانات وخبرة هؤلاء الشباب والشابات الذين أثبتوا عملياً امتلاك قدرات إيجابية ومبشرة.

كم استفاد المعهد من الخبرات الوطنية أمثال (فايز قزق وغسان مسعود وسامر عمران وعباس النوري، وبسام كوسا).. وغيرهم؟
الباب مفتوح لكن لكل من يقبل بالشروط المادية للمعهد ولكل من يرى في نفسه إضافة إلى خبراته. قزق سيخرج طلاب السنة الرابعة في المعهد، وعمران أيضاً يدرّس، ووجهت الدعوة لمسعود إن رغب في التدريس.
يقول الفنان فايز قزق في أحد اللقاءات الإذاعية «إن المعهد قلعة بدأت بالتصدع» ما تعليقك؟
له مطلق الحرية ولكن هل هذا التصدع ناجم عن الظروف العامة التي جعلت الكثير من الأماكن متصدعة، ونحن نمد أيدينا جميعاً ونضعها في يده لرأب هذا التصدع.

وماذا عن افتتاح معهد ثان في مدينة حلب؟
أعتقد أن فكرة إقامة معهد في اللاذقية أو حلب ليست بعيدة عن هذه السياسات والضرر الذي حاق بسورية، ولكن لا أظن أن الاهتمام بالثقافة أقل من الاهتمام بشؤون الحياة الأخرى.

ما الوسيلة لجذب الطلاب نحو المسرح مجدداً بعدما سرقهم التلفزيون؟
بعد ما يزيد على 40 عاماً من افتتاح المعهد تغير الظرف الاقتصادي والاجتماعي، وطرق تحصيل المعرفة كانت تقتصر على الكتاب والآن روافد المعرفة كثيرة. وعلينا الإفادة من هذه الروافد إضافة إلى الرافد الأساسي وهو الكتاب. للنهوض بالشأن الثقافي، هذه المشكلة ليست في المعهد فقط. فالآن من يستمع إلى الموسيقا الكلاسيكية! نحن نعد الطالب كي يكون ممثلاً بالدرجة الأولى وليس ممثلاً مسرحياً فقط. هناك قلة اهتمام بما كان يهتم به الآباء المؤسسون من الخريجين على مستوى تحصيل المعرفة ومستوى الاهتمامات الشخصية. فخريج 2019 يختلف عن خريج الثمانينيات لأن الشرط العام اختلف، إلا أن العملية التعليمية كمحتوى لن تتغير بل الناس تغيرت.

هل يتم احترام وتدريس تجارب الرواد؟ مثل عبد اللطيف فتحي وغيره من مؤسسي المسرح السوري؟
مع الاحترام لكل تجارب الرواد الذين تعبوا لإيصال تجاربهم ولكن المعهد يدرس التجارب العلمية. ويتم الاستفادة من الخبرات والتجارب بعد تحولها إلى مادة خبرة. وتجربة أي مسرحي سوري هي محط احترام وتقدير بعد تحويلها إلى مادة علمية.

هل سيبقى المعهد حلماً يراود راغبيه؟
المعهد مكان خاص وتخصصي مثل المعهد العالي للموسيقا لا يقبل من سيتعلم الموسيقا. إنما يدعم خبرة موسيقية يكون المتقدم قد حصل عليها سابقاً، هو مكان تخصصي لا يقبل إلا من لديه الجدارة والمهارة.

تقصد أنه لا مكان للمحسوبيات في المعهد؟
لا مكان للمحسوبيات هنا ولا في أي زمن من أزمان المعهد وإن كان قد حصل يحصل على طريقة كرة القدم «تسلل»، وليس كسياسة متبعة في المعهد، أي إن المعهد لأصحاب المواهب وليس مكاناً عاماً يستطيع أي شخص أن يدخل إليه بل يحتاج إلى خبرة خاصة وتجربة وموهبة مستندة إلى ثقافة ومعرفة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن