منذ بدا أن الأزمة السورية ماضية نحو التدويل صيف العام 2012 فصاعداً، استشعرت العديد من القوى السياسية الكردية إمكان استعادة الوضعية التي أوجدتها معاهدة «سيفر» 1920، ومن ثم راحت تلك القوى تنسج على منوال «هرتزل» عينه الذي قام على «أسطرة» التاريخ و«أدلجة» الأفكار لخدمة أهداف سياسية محددة.
ما بين العامين 2013-2016 شهدت المنطقة بشكل عام مداً كردياً كان واضحاً، وهو لم يكن قائماً بفعل توازنات القوى فيها، وإنما جاء عبر لحظة تاريخية تلاقت فيها أحلام الكرد الانفصاليين مع مصالح الثالوث الأميركي الفرنسي الإسرائيلي، فواشنطن وعشية افتراقها مع مشروع «الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام» البادئ في 11 أيلول 2012 عندما اغتال متطرفون إسلاميون كانت تدعمهم واشنطن في بنغازي السفير الأميركي فيها، والمنتهي في القاهرة 3 تموز 2013 إثر سقوط حكم الإخوان المسلمون المدوي في الميدان، منذ ذلك الوقت تغيرت معادلات كثيرة إدارات واشنطن في أتونها دفة سياساتها في المنطقة باتجاهات أخرى، وهو ما تؤكده مذكرات وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون التي قالت فيها: إن بلادها كانت على وشك الاعتراف بدولة إسلامية تقوم أراضيها على جزء من أراض سورية والعراق ربيع العام 2013 قبيل أن يقلب الحدث المصري سابق الذكر موازين القوى باتجاهات معاكسة.
منذ ذلك الوقت أخذت واشنطن تبحث عن حليف بري تكون مهمته القضاء على حليف الأمس الداعشي، وهي سرعان ما وجدته في الكرد الذين كانوا قابعين بحثا عن دور تعوم من خلاله أحلام الماضي ومعها طموحات الحاضر، ومهما قيل في قيام ذلك التحالف الذي أشيع فيه أن واشنطن كانت قد عرضت على ميليشيات «الجيش الحر» ما عرضته على الأكراد لاحقاً، فإن من المؤكد هو أنها لم تكن تثق بتركيبة هذا الأول، أي ميليشيات «الجيش الحر»، التي لم تكن ببعيدة كثيراً عن التركيبة الإيديولوجية والفكرية التي يتبناها تنظيم الدولة الإسلامية الذي كانت تريد محاربته.
أما ضلع الثالوث الثاني، الفرنسي، فقدا بدا وكأن باريس ترى أحقيتها في قيام ذراع إقليمية خاصة بها أسوة بما حظيت به بريطانيا منتصف القرن الماضي عندما أقامت الذراع الإسرائيلية في العام 1948، على حين كانت تل أبيب، ضلع الثالوث الثالث، طامحة إلى اصطياد أربعة عصافير إقليمية بحجر كردي واحد إذا ما نجح هذا الأخير في أن يشكل إسفيناً يدق في الجسد الممتد من إيران إلى سورية مروراً بالعراق وتركيا وكياناته الأربعة كلها تشكل بالنسبة إليها منافساً إقليمياً بشكل أو بآخر.
عند هذه التلاقيات تصاعد المد الكردي الذي يصح وصفه الآن بأنه كان أعمى، وهو لم يلحظ في أتون اندفاعته أن المنطقة بتركيبتها الديموغرافية الجريحة وانهياراتها العديدة لا تستطيع تحمل خنجراً جديداً يأتيها هذه المرة بين ظهرانيها في الوقت الذي لم تتعاف فيه إلى الآن من آلام خنجر استقر في صدرها بل لم يزل جرحه طرياً كما لو أنه حدث بالأمس.
هذا في العام، لكن يجب أن يسجل لبعض القوى الكردية ملمساً تحسس مبكراً وفي ذروة المد خطورة الذهاب قدماً مع المرامي الأميركية بعيدة المدى تلك التي تهدف إلى قطع طريق طهران بيروت المار ببغداد ودمشق عبر إقامة حاجز جغرافي ديموغرافي لتحقيق مأربين كبيرين أولاهما كسر عصب مقاومة المشروع الإسرائيلي النامي في رحم المنطقة والى الأبد، وثانيهما تهميش موقع حلب الذي نجح في أن يشكل رابطاً تاريخياً واقتصادياً بين هضبتي الأناضول والهضبة الإيرانية، وفي ذاك، كما ارتأت تلك القوى، يكمن فناء المكون الكردي برمته، إذ كيف يمكن لنسيج لا يتعدى ثقله بضع ملايين أن يلعب دور كانتون وظيفي مهمته الحؤول دون تفاعل شعوب يفوق تعدادها لـ120 مليون من البشر، كان ذلك بالتأكيد كمن يريد إيقاف هدير نهر الفرات بحجر صغير بل من طبيعة كلسية قابلة للتفتت أيضاً.
لكن على الرغم من كل ذلك جرى ابتناء السياسات الكردية عند النقطة التي تقف عندها تلاقيات واشنطن باريس تل أبيب فكانت «روج افا» في آذار من عام 2016 التي ترمز لغرب كردستان في محاكاة لتجربة الشمال العراقي، إلا أن بناة «الروج» التي تعني باللغة الكردية الشمس كانوا قد اخطؤوا في حسابات التاريخ والجغرافيا الكفيلة على الدوام بلفظ أي حراك، أياً يكن هدفه، يقع خارج سياقاتهما وإذا كان الرهان في ذلك على النموذج الإسرائيلي فذاك سيكون أكبر جسامة في ممارسة الخطأ فهذا الأخير له حساباته المختلفة وهو إلى اليوم يحتاج في كل ساعة إلى خوض معركة بقاء وجوده والتذكير بأنه لا يزال قائماً على الرغم من عدم انقطاع حبل مشيمته بالغرب.
كانت «روج آفا» نهاية لمسار ولم تكن بداية له، وما يؤكد تلك السياقات السابقة واستنتاجاتها هو انحسار موجة المد الكردي البادئة في كركوك تشرين الأول 2017 والمنتهية في عفرين شباط 2018، وإذا ما كان مصطفى كمال أتاتورك قد قال بعد أن قرأ اتفاقية سيفر 1920 بأنها قرار يقضي بإعدام تركيا، فان «روج آفا» بالتأكيد هي قرار بإعدام سورية ومحكمة نقض دمشق وحدها تملك القدرة لإبطاله ووقف إجراءات تنفيذه.
الآن منذ عفرين شباط 2018 إلى سوتشي شباط 2019 هبت رياح إقليمية ودولية هي في مجملها لا تصب في مصلحة المشروع الكردي الانفصالي، والواقعية السياسية تقتضي أخذها بالحسبان، فإدلب ما بعد هذا الأخير باتت ساقطة دولياً، والخطوة التالية ستكون في الشمال السوري، وعندها سيكون الموقف الكردي مفصلياً وعبره قد يخرج صانعوه عن الحالة الوطنية إذ لا يعقل ألا يرى هؤلاء أن أنقرة وبعدما استطاعت وأد الخطر الكردي المهدد لكيانها باتت تحاول اليوم استخدام الورقة الكردية في سورية للعبور إلى «اتيلا» سورية في محاولة إلى تكرار العملية التي أطلق عليها اسم «السلام من أجل قبرص» في عام 1974 عندما نجحت أنقرة عبرها في ترسيخ القسم التركي في الجزيرة، عدم لحظ هذا سوف يدفع لأن يجعل من المكون الكردي نسيجاً تناحرياً مع باقي مكونات الشعب السوري ولسوف تكون له تداعياته الخطرة بالتأكيد.
ثم إن «العمق» الكردي في الشمال العراقي أخذ هو الآخر بالتفتت، والقرار الأميركي القاضي بأن ساحة المواجهة المقبلة مع طهران ستكون في العراق، ما يتمظهر في قرار واشنطن الانسحاب من سورية وأفغانستان على حين خرج مستشار الأمن الوطني العراقي قبل أيام (19 الجاري) ليعلن أن لا وجود لقواعد عسكرية أميركية على الأراضي العراقية لكي يجري الحديث عن انسحابها، هذه المواجهة سيكون الأكراد أولى ضحاياها، وعليه فإن السؤال الذي يجب على الكرد السوريين طرحه الآن على أنفسهم هو: هل السياسات تتحدد عبر الحقائق أم عبر الوقائع؟ والجواب بالتأكيد تتحدد عبر هذي الأخيرة التي تتحدد بدورها عبر القوة والمصلحة وكلا الاثنين الآن ليسا في الكفة الكردية.
لم يعد الرهان على القوة الأميركية وارداً، وعلامات الوهن القصوى التي ظهرت مؤخراً على الموقف الكردي بشقيه العسكري والسياسي كان من الممكن عدم الوصول إليها، فأن يخرج قائد عام ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية – قسد» مظلوم كوباني في 18 شباط مطالباً واشنطن بالإبقاء على 1000-1500 جندي لها في سورية، ومن ثم يعقبه بعد ساعات الرئيس المشترك لـ«مجلس سورية الديمقراطية – مسد» الدار خليل، داعياً الدول الأوربية إلى عدم التخلي عن الأكراد بعد قرار الانسحاب الأميركي، أن يحدث هذا فإن له مدلولين مهمّين أولاهما أن غرف صناعة القرار الكردي هي معطلة، أو على الأقل غير قادرة على جب ما يجري من تحولات في الخارج، وثانيهما أن تلك الغرف لا تزال ترى أن خنجر الشمال السوري لا يزال قادراً على أداء وظيفته السابقة.
يقول التقرير السنوي لـ«المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية» بلندن لعام 2018، وهو أحد أهم مؤسستين عالميتين في تقييم الصراعات الدولية إلى جانب «معهد استوكهولم لأبحاث السلام»: إن روسيا والصين تتحديان الهيمنة العسكرية الأميركية، وإنهما إلى جانب أميركا، قد شرعتا في الاستعداد الممنهج لاحتمالات نشوب الصراع، وربما تبدو تراجم هذا الكلام ظاهرة في العديد من التموضعات الإقليمية الأخيرة ما يظهره حال التململ الخليجي المندفع مؤخراً باتجاه الصين والهند وروسيا.
جانب مهم أخير يجب على صانع القرار السياسي الكردي وضعه بالحسبان هو أنه في ظل هذه التحولات فإن ما يعوق التسوية السورية الآن هو الخلاف على مواقيت حدوثها، فالغرب يريد تمرير تسوية قبيل تحرير إدلب وقبيل فض المشكلة الكردية في الشمال، الأمر الذي ترفضه دمشق بالتأكيد، وفي التحولات السياسية الكبرى لا مكاسب دون أوجاع، وأمام صانع القرار الكردي الآن فرصة للتخفيف من هذي الأخيرة بدرجة كبيرة.
هناك في خلفية الصورة الممتدة من العام 2012 إلى اليوم ملمح يؤكد أن القطار الذي أقلع فيه الكرد منذ ذاك التاريخ لم يكن أغلبية ركابه مدركين إلى أي وجهة هم ماضون إليها تلك التي قررتها قمرة القيادة وحدها فحسب، وهذي الأخيرة لم تعلن لركابها عن المحطة التي سيقف الركب فيها، ولا هي أثمان التذاكر، بل لم توزع عليهم البطاقات التي تضمن لهم جلوسهم في أماكنهم المحددة التي تضمن سلامة الرحلة.