قلعة برزية لوحة فنية فريدة ضمن طبيعة خلابة … المعالم التاريخية نقاط جذب سياحية مميزة وفرص مهمة لإقامة مشاريع استثمارية وتنموية
| المهندس علي المبيض
تشتهر سورية بالقلاع الأثرية التاريخية القديمة، وهي من الآثار والشواهد الحية التي تدل على تنوع الحضارات والممالك التي مرت وتعاقبت على هذه الأرض الطاهرة منذ فجر التاريخ وحتى الآن وتعطي دليلاً واضحاً وصريحاً على عظمة هذا البلد وصمود أبنائه وعزتهم.
وقد حافظت كثير من تلك القلاع على شكلها ومنشآتها رغم مرور مئات بل آلاف السنوات على تشييدها وبقيت صامدة أمام العديد من الهجمات وشامخة أمام الكثير من الغزاة والطامعين على اختلاف تسمياتهم وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى تطور بناء القلاع والحصون لدى السوريين كجزء رئيسي من المنشآت العسكرية التي تثبت مدى تمسكهم بأرضهم ودفاعهم عنها.
ونستكمل في مقالتنا اليوم استعراض بقية القلاع في محافظة حماة التي تعتبر شواهد تاريخية على أصالتها وحضارتها العريقة وأهميتها الإستراتيجية، ومن المفيد العمل على إعادة تأهيلها لتكون شاهداً ناطقاً على أن سورية هي منطقة محورية لعبت وستظل تلعب دورها المنوط بها بحكم التاريخ والجغرافيا والعديد من العوامل.
قلعة الرحية تقع شمال شرق مدينة حماة وتبعد عنها نحو 45 كم تم العثور خلال التنقيبات الأثرية التي جرت في القلعة على بعض الأواني الفخارية التي يعود تاريخها إلى أكثر من 2500 عام ما يدل على أن بناء هذه القلعة يعود إلى الفترة الهلنستية أي في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، إن أسلوب بناء السور الخارجي للقلعة يشبه إلى حد كبير أسلوب العمارة الرومانية أما أسلوب البناء المعتمد في التحصين الخارجي فإنه يعطي انطباعاً بأنه ينتمي إلى فترات تاريخية أقدم من ذلك ما يدل على أن الموقع بالأساس هو مستوطنة قديمة ذات تحصين دفاعي متين.
إن اختيار موقع بناء القلعة يدل على الخبرات العسكرية الكبيرة المتراكمة لدى السوريين في تلك الفترة وسعيهم للاستفادة القصوى من الميزات ونقاط السيطرة التي توفرها طبيعة المنطقة حيث تقع القلعة ضمن سلسلة الهضاب البازلتية وتطل من الشرق على منحدر حاد يزيد ارتفاعه على 75 م، وقد بني السور الخارجي للقلعة على شكل بيضوي محوره الطويل يبلغ 340 م ومحوره الصغير240 م وقد استخدم ببنائها حجارة بازلتية كبيرة الحجم يبلغ طولها نحو متر ونصف المتر مشذبة من وجه واحد وتأخذ شكل شبه مستطيل ولم يستخدم أي ملاط ومونة رابطة في هذا البناء.
يتم الدخول للقلعة من خلال باب يبلغ ارتفاعه نحو 230 سم يقع في الجهة الغربية للسور الخارجي ويقابل الباب من الداخل ممران عريضان يتقاطعان وتصطف الجدران المشكلة بشبكة من المساكن على جانبي الممرات إلى داخل القلعة، وتتميز هذه المنازل بوجود باحة داخلية لكل منزل يتوزع حولها عدد كبير من الغرف ومن غير المعروف طبيعة استخدام هذه الغرف بالضبط، غير أن توزيع الغرف حول باحة داخلية هو نظام معماري قديم معروف في هذه المنطقة ولكن غياب عناصر العمارة الكلاسيكية من تناظر وتعميد وعناصر معمارية مميزة يؤكد أن هذا الموقع هو أكثر قدماً، وفي الزاوية الجنوبية الغربية من القلعة يوجد مبنى على هضبة أكثر ارتفاعاً من مستوى القلعة وتتصف غرفه بالضخامة وسماكة الجدران الكبيرة وهو قريب من الباب ما يجعله يمثل أحد أهم العناصر الموجودة في هذه القلعة.
إن بقايا الجدران ما زالت ظاهرة على سطح الأرض داخل القلعة ما يجعل إمكانية تخطيط الطرق والمساكن والغرف أمراً ممكناً، وفي الجهة الغربية من القلعة يوجد مرتفع بازلتي أقل ارتفاعاً من القلعة بقليل وقد حفر بينهما خندق ليشكل حاجزاً طبيعياً.
قلعة أبو قبيس موقع أثري ومعلم تاريخي مهم وقديم، يعود أصل البناء فيه إلى العصر الروماني حيث اعتاد الرومان أن يبنوا مجموعة من القلاع والحصون على القمم الغربية للجبال الساحلية السورية، تقع قلعة أبو قبيس في منطقة مصياف وعلى مسافة 1 كم من قرية أبو قبيس التابعة إدارياً لمحافظة حماة، وقد بنيت على قمة جبل تحيط به الغابات والطبيعة الخلابة، وهي قلعة متكاملة ترتفع جدرانها عالياً داخل الأسوار من كل الجهات وقد زودت هذه الجدران من الخارج بأبراج دائرية وأبراج مربعة لتحصينها وزيادة منعتها ودعمت هذه الجدران بتصفيح حجري بشكل جميل ومتين ويتميز الجدار الشرقي بأنه مزود بتصفيح مائل عال جداً تقوم عليه جدران القلعة من الأعلى وتضم مرامي السهام.
تأخذ القلعة شكل مثلث رأسه من الشـمال وقاعدته من الجنوب ويقع المدخل الرئيسي لها في الجهة الشمالية الشرقية ويأخذ شكلاً منكسراً حيث يوصل إليه عبر مدخل يمر بين برجين ويتم الدخول إلى القلعة الداخلية من خلال قنطرة تغطي المدخل بجانبها محرس ومن الداخل يحمي الباب برج دائري يتصل بالقلعة الداخلية وقد زود المدخل بهذه الأبراج لحمايته وزيادة منعته وذلك بسبب إمكانية الوصول السهلة نسبياً من هذه الجهة ويؤدي المدخل إلى ممر يقود إلى الغرف الداخلية والمستودعات التي تظهر بقايا جدرانها وقناطرها، أما في الجزء الجنوبي فيوجد برج دائري كبير تتصل فيه الأبراج الثلاثة الجنوبية التي تدعم القلعة من هذه الجهة، ويوجد فسحة داخلية محصورة بين السور الخارجي والقلعة الداخلية حيث تضيق من الغرب والجنوب لتشكل ممراً حول القلعة الداخلية وتتسع من الشرق والشمال لتضم عدداً من المستودعات وخزانات المياه، أما السور فقد بني من الحجر الكلسي الصغير المتوافر بكثرة في هذه الجبال ويمتد بشكل مضلع منحن ويوجد في الزاوية الجنوبية الغربية بقايا لبرجين مربعين مازال أحدهما قائماً حتى اليوم، إن الطراز المعماري لبناء القلعة يشبه إلى حد كبير نموذج القلاع البيزنطية من القرن العاشر الميلادي وهذا يدل على أن البيزنطيين سيطروا على هذا الموقع وأعادوا تخطيطه وتحصينه على النمط المعتمد لديهم ولكنه ما لبثت أن انتقلت السيطرة على القلعة إلى يد العرب واستولى عليها بنو مرداس أمراء حلب في القرن الحادي عشر الميلادي عند توسيع إمارتهم، ثم انتقلت إلى سلطة محمود بن زنكي ثم الأمراء الأيوبيين فالمماليك، ولا يعرف إن كان المغول قد هدموها عند اجتياحهم بلاد الشام في عام 1258م وقد تعرضت القلعة بين عامي 1592 – 1593 م لزلزال فهجرها سكانها الذين كانوا يسكنون حولها إلى قرية أبو قبيس المجاورة لها، أما في الفترة العثمانية فقد تناقصت أهمية القلعة وهجرت لتبقى عمارتها كما هي عليه وبالنتيجة فإن القلعة الحالية عربية وبيزنطية ممتزجة بأسلوب التخطيط والتحصين.
قلعة برزية أو قلعة ميرزا وهي قلعة قديمة غاية في القوة والمنعة تقع على جبل شاهق يرتفع 450 م عن سطح البحر شديد الانحدار تقع على بعد 18 كم من بلدة شطحة وتتبع إدارياً لمحافظة حماة وهي تطل على شمال سهل الغاب مباشرة تبلغ مساحتها نحو 40000 م2، وقلعة برزية عبارة عن حصن منيع يضرب المثل بحصانته ومنعته فيقال كأنه في حصن برزية ويحيط بالقلعة من الجهة الشمالية والشرقية واد ذو انحدار شديد ما يؤمن حماية طبيعية تمنع اقتحامها من هذه الجهات ويجمع الباحثون على أنه لا يستطيع أحد أن يهاجم القلعة من جهتي الشمال والجنوب لشدة انحدار الأودية المحيطة بها، أما الجانب الشرقي فيمكن الصعود منه لكن لغير المقاتلين لصعوبة تسلقه في حالة الحروب، تأخذ القلعة شكلاً شبه منحرف وتتألف من قلعتين داخلية عليا وخارجية سفلى ويحيط بها سور طويل من جميع جهاتها مبني من الحجر الأبيض الكلسي وقد زود السور بمجموعة من مرامي السهام كما يدعم السور من كل الجهات مجموعة من أبراج المراقبة عددها 12 برجاً ذات أشكال مربعة ومستطيلة، يقع مدخل القلعة من الجهة الغربية وهي أضعف نقطة في طبيعة الجبل الذي يحتضن القلعة إذ يمكن الوصول إليه بشكل أسهل من سواه، والمدخل عبارة عن قنطرة عالية تحتوي تحتها على باب ذي حجارة ضخمة لزيادة منعتها وقوتها، أما المساحة بين القلعة الداخلية والأسوار الخارجية من الشرق فتضم عدداً من خزانات المياه محفورة في الصخر، في عام 1188 م حررها صلاح الدين الأيوبي من الصليبيين وأضاف عليها العرب بعد ذلك عدة تحصينات ومنشآت جديدة.
يتبين من خلال المواصفات البيزنطية للأطلال المتبقية من قلعة برزية أن تاريخ بنائها يعود إلى فترة الوجود البيزنطي في نهاية القرن العاشر الميلادي وبداية القرن الحادي عشر حيث أعطاها البيزنطيون شكلها العام، وأبراجها مبنية وفق أسلوب العمارة الأيوبية، كما تضم عدداً من المنشآت تعود للفترة المملوكية، وهذا يدل على أن هذه القلعة كانت تمثل موقعاً إستراتيجياً مهماً خلال كل المراحل الزمنية بسبب موقعها الإستراتيجي ولأنها تشرف على الطريق المساير للجبال من الداخل لذلك زاد الاهتمام لتبقى هذه القلعة حصينة ومنيعة.
المهم في هذا الموضوع أن نؤكد أن جميع هذه القلاع الأثرية الشامخة وإن تصدّعت وتهدّمت لكنها لا تزال بقاياها تتربع في أماكنها العالية في منظر مهيب يروي قصص البطولة ويذكر بالأحداث الجسام التي مرت عليها وفي الوقت ذاته هذه المواقع تشكل نقاط جذب سياحية مميزة وفرصاً غنية لإقامة مشاريع تنموية مهمة جداً توفر العديد من فرص العمل لأبناء المجتمع المحلي وتقوي روابط الانتماء ويمكن بالتأكيد استثمارها وتوظيفها في عراقة الماضي وثقة الحاضر وأمل المستقبل.