ثقافة وفن

ذو الوزارتين والحب

| إسماعيل مروة

ابن زيدون أو أحمد بن زيدون، شاعر الأندلس الباقي، وشاعر الحب المميز الذي يردد شعره الزمان، شعر مؤثر سهل يصل إلى كل إنسان، ونثر متفوق للغاية من رسائل نثرية، لكنها لم ترق إلى مستوى شعره العظيم، مع أنها حوت الكثير من القضايا والهموم.
ابن زيدون من القلة في الحياة العربية التي حملت لقب ذي الوزارتين، فقد كان وزيراً وسفيراً، و لدى أكثر من دولة في الأندلس، والتناحر السياسي والحياتي بينه وبين خصومه أدخله السجن، وبقي ابن عبدوس طليقاً، وابن زيدون يستعطف سيده من السجن أن يعفو عنه ويصفح، يكتب ويتذلل من أجل العفو والخروج من السجن، ودارسو الأدب وقفوا عند كم التذلل في هذه الرسائل، وحاولوا قراءة ما توجه به إلى خصومه من نقد وتعريض، ولكن هذه الرسائل التي صاغها بحرقته ولوعته وتذلله من السجن لم تصل المستوى الفني الراقي الذي وصله شعره الرقيق، فما السبب في ذلك؟ من الواضح أن وزارتيه وسفارته أسهمت جميعاً في هذا النوع من التذلل وطلب الغفران، وذلك من أجل المنصب والجاه والوزارة ورضا السيد الذي غضب عليه لوشاية، ومهما تكن الأسباب في العلاقات السياسية فإنها تبقى مصلحية وفردية، مكسبها للشخص لا يشارك به الآخرين، وثمنها من ذل وتذلل وعزل وسجن وما شابه يقع على الشخص نفسه، فالفائدة له، والعقوبة له، وهو في الحالين لا يشارك الآخرين في منفعة، ولا يشاركه الآخرون في نكباته، وإن سخط عليه أحدهم، أو تعاطف معه آخر في محنته، فإن الأمور تبقى آنية، وباختصار شديد فإن هذا الواقع لا يقدم أدباً خالداً، فما جاء من اعتذاريات في أدبنا، وما جاء من روميات في أدبنا يبقى حالة فردية ومن أجل دوافع شخصية تعني النابغة من قبل وأبا فراس تالياً، وتعني ابن زيدون في رسائله، وبقي من النابغة ما يشارك به الناس من ألم، وبقي من أبي فراس إحساسه بأمه وهو يخاطبها (أيا أم الأسير سقاك غيث) ولم يؤثر وجدانياً في مناجياته لسيف الدولة، وفي كل الأمثلة نجد أن الأديب عندما يكون واقعاً تحت تأثير السلطة وشهوة السلطة يدفع الثمن، ويخسر التعاطف، ويبحث عن أمور لا يمكن أن تجد مسوغاً، وبعد أن يتمرغ الإنسان بكل أنواع الذل يكتشف صدق قول الزمخشري (السلطان نار إن اقتربت منه أحرقتك ناره، وإن ابتعدت عنه شاقتك ناره) يعرف هذا هذه المقولة، ولكنه يتجاهله ليكون جزءاً من السلطان، وعندما يصبح في مهب الريح يعود للحديث عن المظلومية، وقليلون هم الذين يدخلون ويحفظون قول الزمخشري ويعملون به!
لو لم يكن ابن زيدون محباً فماذا بقي منه؟
وماذا فعل الحب به؟
وماذا يقدم الحب للمحب؟
تذلل النابغة للنعمان.. وبقي حديثه لأميمة
وتذلل أبو فراس لسيف الدولة وبقي في احتضان روح أمه
أما ذو الوزارتين ابن زيدون فلم يبق له من تذلله لابن جهور إلا وضاعة الشخص من أجل السلطة.
أما من أبقاه فهو الحب..
أبقته ولادة بنت المستكفي التي تدعوه لزيارتها أو لانتظار زيارتها:
(ترقب إذا جُنَّ الظلام زيارتي)
أحبها وأحبته، فارقته لأنه فضح أمرها، تذلل وحاول الاعتذار قال له: (ود الصبر محب ودعك)
ويعتذر ويوضح إساءته:
(ذائع من سره ما استودعك)
وحين تذلل لولادة كان محط إعجاب يختلف عن تذلله لابن جهور، فالتذلل للمحب والمحبوب أعلى درجات السمو:
(إني ذكرتك بالزهراء مشتاقاً..)
ويتابع استجداءه:
(بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا)
وبقي ابن زيدون يتذلل لولادة، ويحاول استجداء لحظة الحب عندها لعلها تعود إليه وإلى حبه:
(أضحى التنائي بديلاً من تدانينا)
لم تعد ولادة لابن زيدون، ولم يتوقف ابن زيدون عن بثها حبه وشكواه محاولاً إحياء الحب..
عاش ابن زيدون إلى يومنا بحبه لولادة، الحب المغمس بالتذلل والاستجداء، وفي كل صورة من صوره كان سامياً عالي القيمة ووجد تعاطفاً وصل إلينا، وقد قرأناه ولم نعش زمنه، بينما لا تعنينا كل رسائل التعطف التي قالها لابن جهور، فتلك له.
أما حبه فهو لنا أكثر من كونه حالة خاصة، الحب وحده هو الذي يتحول من حالة خاصة إلى حالة عامة، الحب وحده هو الذي يجعل أحدنا يحاكم الشاعر بعد ألف سنة، أو يتعاطف معه، الحب وحده هو الذي يجعلنا نقول: لو فعل كذا! لماذا فعل كذا؟
وزارتا ابن زيدون ذهبتا بكل ما جمع وسجن..
خدمته للسلطان- مهما تلونت- انتهت
وبقي لنا ابن زيدون المحب العاشق الذي يدخل في وجداننا، وندخل في حروفه وصوره، وصورة ولادة التي تطمح المرأة أن تكونها وهي تقول:
أنا والله أصلح للمعالي
وأمشي مشيتي وأتيه تيها
وأمكن عاشقي من صحن خدي
وأعطي قبلتي من يشتهيها
كم الصورة جميلة، وكم يبلغ الأدب عندما يكون عن الحب والرجل والمرأة، وحالة وجدانية لا حالة نفعية سياسية، وحده الحب أبقى ابن زيدون.
نسمع عن وزارتيه، ولكن صورته الباقية أبداً في صدقه وتقلبه عن نار الشوق من أجل حب أضاعه.. وربما كان لوزارتيه وسفارته الدور في خسارته للحياة الأبقى في رحم الحب المتجدد أبداً.
من منا يذكر (تمام المنون) و(سرح العيون) هزلية أو جدية؟!
ومن منا ينسى (بنتم وبنّا)؟
الدارسون وحدهم من يحلل تلك الرسائل التي تبقى وثائق عصر، ولكنها ليست خلود شاعر وعبقرية، بالحب كانت عبقرية ابن زيدون، وبالحب وولادة وصل إلينا شاعراً لا يجارى إنسانية وحباً وولهاً.
ولنا أن نوازن بين وزارتيه وحبه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن