ثقافة وفن

المكتبات المنزلية ثروةٌ ثقافية

| نبيل تللو

حضرت منذ فترة احتفالاً أقامته مكتبة الأسد الوطنية بدمشق لتكريم أصحاب المكتبات المنزلية أو ورثتهم، الذين أهدوا في أوقاتٍ سابقة مكتباتهم الخاصة لحفظها فيها وإعارتها للقراء والباحثين، وحسناً ما قامت به، فهو جزءٌ من ردِّ الجميل لهؤلاء الذين قاموا بعملٍ نبيل بتقديمهم كتبهم تطوعاً وتبرعاً كي يستفيد منها الآخرون، إضافة إلى أنَّها نصبت لوحةً تذكارية بأسمائهم في بهوها الرئيسي، وخصَّصت فهرساً خاصاً لكتبهم، وقد جاء الاحتفال ضمن النشاطات الثقافية التي أقامتها وزارة الثقافة بمناسبة يوم الثقافة السورية 23/11/2018. في هذه المقالة سوف أستعرض كيفية نشوء المكتبات المنزلية، ومآلاتها المحتملة، علماً أنَّ كلَّ من أمضى حياته ساعياً خلف كتابٍ قديمٍ أو حديث، أو جارياً وراء مجلة مضى تاريخ صدورها أو نُشِرت حالياً، يعرف تماماً ما سوف أكتبه في هذه المقالة.
ذلك أنَّ المطابع تطرح يومياً عشرات الكتب والمجلات، وصدور كتابٍ أو مجلةٍ جديدة إنما يعني أنَّ رافداً معرفياً إضافياً قد انضم إلى المكتبة الثقافية، وأنَّ هرم العلوم الإنسانية قد ارتفع ولا حدود لارتفاعه، ولا بُدَّ من ضمِّه إلى مكتبة المنزل الخاصة مهما ارتفع ثمنه، فضمُّ كتابٍ إليها هو أمرٌ عزيز حتى وإن لم يتوافر الوقت الكافي لمطالعته من الغلاف إلى الغلاف، وبمرور الأيام والسنوات تأخذ المكتبة بالتزايد حتى تمتلئ الخزانة المخصصة لها، لتبدأ مرحلةٌ جديدة من تكوين المكتبة تتمثَّل بالبحث عن خزانةٍ ثانية وثالثة، وتأمين مكانٍ لائق لها في البيت الذي غالباً ما يضيق بساكنيه، الذين يبدؤون بالتذمر والشكوى، لا سيما منهم سيدة البيت، التي تشكو همها لسيد البيت مع يقينها بأنها لن تجني أيَّ فائدة تُذكر، فهو الخصم والحكم في هذه القضية، ولا مجال لقبول الوسطاء، وحجته الدامغة تتلخص فيما يلي:
ـ كيف تريدون منعنا من تطبيق أول كلمةٍ قرآنية «اقرأ»، فهذا أمرٌ إلهي وليس خياراً، ولا يمكن تحقيقها إلا بالسعي وراء المزيد من الكتب، فإن لم تعد الخزائن تكفي لحفظها، تُنقل إلى السقيفة أو إلى غرفة القبو إن توافرتا.
ـ إنَّ الكتاب هو الحاوي للعلم والمعرفة، فكيف تريدوننا أن نمتنع عن اكتساب المزيد منهما.
ـ إنَّ المكتبة تخلق جواً ثقافياً لأفراد المنزل، وتعمل على غرس حبِّ القراءة فيهم.
ـ إنَّ الدولة تشجع عبر مؤسساتها المختلفة، ولا سيما وزارة الثقافة، على القراءة واقتناء الكتب من خلال إقامة معارض الكتب على مدار العام بحسوماتٍ مغرية، فكيف لنا أن نقاوم هذا التوجه الحكومي الهادف لنشر العلم والمعرفة ورقي المجتمع، فأمةٌ تقرأ أمةٌ ترقى.
ـ إنَّ من حقِّ المبدعين شعراء ورواة وكتَّاباً ومؤلفين على باقي أطياف المجتمع أن يقرؤوا نتاجاتهم الفكرية، فكيف لنا ألا نشجعهم باقتناء كتبهم ولو غصَّت بهم رفوف المكتبات المنزلية؟ ألا ينتفع من هذا الكتاب دور النشر؟ أليس تعاون أفراد المجتمع واجباً على الجميع؟ ألا تحرِّك صناعة الكتاب عجلة الاقتصاد التي تسعى الحكومة لتنشيطها؟.
ـ أليس البيت الذي فيه مكتبة هو منزلٌ مثالي يفخر به المجتمع ويمثِّل رمزاً لتقدم الأمة ورقي المجتمع؟.
وبعد عمرٍ مديد حافل بالجدِّ والنشاط، يموت صاحب المكتبة الذي لم يقتنع يوماً بمواصلة القراءة عن طريق الحواضن الرقمية، لتبدأ «الشمعة – المكتبة» بالانطفاء والتلاشي مع أنَّها قد أنارت العقول لسنوات، ونشرت الأفكار النيِّرة لعقود، ولا سيما مكتبة ذلك الأب الذي عجز عن نقل محبة الكتب والمطالعة لذريته من بعده مع سعيه الحثيث نحو بلوغ ذلك الهدف، والذرية تمتد للأحفاد، ذلك أنَّ نمط الحياة قد تغَّير ولم يعد فيه حيُّزٌاً للقراءة ولو ضئيلاً، فقد صار هناك وسائل أخرى أحدث للحصول على المعلومة، وأول ما يفكر به الورثة هو التخلص من المكتبة ــ التي تراكمت كتبها على مدى سنواتٍ طويلة ـ للحصول على مساحةٍ إضافية في المنزل، أو بيع البيت مع مكتبته دون حاجاته الأخرى وتوزيع الثمن على الورثة، هذا مع أنَّ هذا البيت قد وُلِدَ فيه جميع الأولاد، وجدرانه عابقة بمئات الذكريات التي لا تُمحى، فإن لم يرض الشاري باستلام المكتبة مع البيت ولو دون ثمن، فإنهم يبادرون للاتصال مع إحدى المكتبات العامة لقبول المكتبة بكلِّ محتوياتها هديةً، بذريعة نيل الأجر والثواب للمرحوم صاحب المكتبة، مصداقاً لقول الرسول الكريم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٌ جارية، أو علمٌ ينتفع به، أو ولدٌ صالحٌ يدعو له»، ووضع الكتب في مكتبةٍ عامة هو من الصدقة الجارية والعلم الذي ينتفع به، أو عرضها على أصحاب مكتبات الرصيف المنتشرة في كلِّ الأماكن بيعاً بثمنٍ بخس، لا بل في بعض الأحيان: «شيل ببلاش» مع دفع أجرة الشاحنة، فلا بدَّ من تسليم البيت للمالك الجديد فارغاً في موعدٍ نهائي لا تراجع عنه.
نعم، إنَّ الظروف المحيطة بالورثة مثل تزايد عددهم، يتطلَّب استغلال المزيد من المساحات، كما أنَّ ضغط الظروف المعيشية عليهم يفرض قواعد جديدة، ويبسط أسساً لم تكن بالحسبان، ولعلَّ بيع المكتبة لمكتبات الرصيف بثمنٍ بخس أو مجاني هو من حظ أولئك الذين عشقوا الكتاب ولكنهم لا يستطيعون دفع ثمنه الباهظ، فيستطيعون اقتناءه بثمنٍ متدنٍّ لمضي سنوات على صدوره، كما أنَّه من الفأل السعيد لأولئك الذين يبحثون عن كتابٍ معيَّن في المكتبات ولكنهم لا يجدونه لمضي سنوات على صدوره، فيجدون ضالتهم في مكتبات الرصيف.
وكما نعلم، فإنَّ كثيراً من الدول قد وفَّرت مساحاتٍ واسعة للمكتبات الخاصة في أنحاء البلاد حاضرها وريفها، وهذا ما نراه في بلدنا الحبيب سورية حيث انتشرت المراكز الثقافية في كلِّ أنحاء القطر، ولكننا نطالب بالمزيد منها لاستيعاب المزيد من المكتبات الخاصة، كما أنَّ المجتمع الأهلي وبعض المبادرات المجتمعية غير الربحية يوفِّر إمكاناتٍ للاستفادة من الكتب المستعملة وتوزيعها على من هم بأمسِّ الحاجة إليها سواءٌ داخل المدن أو في المناطق النائية، بل حتى في بلدانٍ أخرى.
ولكنَّ الأفضل في هذه العملية ـ برأيي المتواضع ـ هو أن يحدد أصحاب المكتبات الخاصة وهم على قيد الحياة، المكان التالي الذي ستؤول إليه مكتباتهم الخاصة في حال لم يتلمسوا اهتماماً بها من ولدٍ أو حفيد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن