إذاً المنطقة مقدمة على مشهد جديد بعد قمة طهران، هذا ما يمكن أن يستشفه المرء. القفازات الناعمة لا حاجة لها بعد الآن. الكلام للميدان وحده. ساحات المجابهة ارتسمت. من العراق، فشرق سورية مروراً بالجنوبين السوري واللبناني، إلى اليمن، ومن يعلم ربما غزة.
الخطط الأميركية للمنطقة تحتاج إلى تكثيف التعاون والتنسيق على كافة المحاور. اختبار إدلب العام الماضي شكل درساً لدمشق. دس الأميركيون أنوفهم في تلك الأزمة، ولأول مرة تتراجع الدبلوماسية الروسية الجسورة وتقبل بما لا يمكن تصوره: توسيع الدور التركي في مسألة بمثل حساسية إدلب، سواء لمصير سورية أو توازناتها المستقبلية.
تذيق العقوبات التي أعادت إدارة الرئيس دونالد ترامب فرضها على إيران، شعب هذه الدولة مرارة «الموت البطيء»، ويتوعد الأميركيون بتشديدها، ذلك في حين يطلب الأوروبيون من طهران ضبط النفس والتهدئة وعدم الانسحاب من «خطة العمل الشاملة المشتركة» الخاصة بالبرنامج النووي الإيراني، تعلقاً بوهم اسمه «الآلية المالية الأوروبية» المجهزة للالتفاف على العقوبات الأميركية. هذه الدبلوماسية الجارية ما بين طهران وبروكسل وبقية عواصم القرار الأوروبي تحرم الإستراتيجية الإيرانية من أهم أوراقها في مواجهة الطوق الأميركي: «اتخاذ المبادرة»، ولو عنى ذلك العودة إلى تخصيب اليورانيوم.
لا حاجة للتذكير بتأثير العقوبات الأميركية والأوروبية على سورية، في حين تقف الحكومة مكتوفة الأيدي نتيجة اتفاقات وتفاهمات تمت من خلف الكواليس، تتحكم بأوضاع مناطق شرقي البلاد، شمالها أو جنوبها.
هكذا، تتلاقى الحكومة السورية مع أصحاب النظرة الواقعية للمنطقة من المسؤولين الإيرانيين: القيود والضوابط الإقليمية تكاد تقضي على ساحة المناورة أمام دمشق وطهران، والحل لن يكون إلا بالمبادرة ولو وقفت المنطقة كلها على حافة الهاوية.
يعتقد المسؤولون الإيرانيون المفتاحيون أن بلادهم قد حققت بالفعل، انتصاراً نهائياً في الهلال الخصيب، وأن السنوات التالية ستشهد تعزيز هذا الانتصار وضمان إنهاء جيوب المقاومة للدور الإيراني المهيمن. تفكر الحكومة السورية أيضاً بذات الطريقة فيما يتعلق بنتيجة الحرب التي شهدتها سورية خلال السنوات الثماني الماضية.
خلال عملية إدلب في الخريف الماضي وقفت واشنطن تهدد وحرّكت البوارج الحربية باتجاه السواحل السورية. اختار الروس التهدئة وكان اتفاق الرئيسين فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان في منتجع سوتشي الروسي على وقف العملية وإنشاء منطقة عازلة في محافظة إدلب. لا حاجة للقول إن أردوغان مهر الاتفاق بتوقيعه من دون أن يكون لديه النية أو حتى القدرة على الالتزام بما وعد به، وهو ما ظهرت مؤشراته خلال الأشهر الماضية.
اليوم، دقت ساعة العملية الكبرى في إدلب، وهذه المرة لا مجال للدبلوماسية أو هكذا يبدو، فأي تحرك أميركي باتجاه السواحل السورية سيقابل بتحركات مضادة للوجود الأميركي في العراق، وسيتم لجم التحركات الإسرائيلية بتحركات مقابلة في جنوب سورية ولبنان لتعقيل الرؤوس الحامية في تل أبيب. أما الأتراك فالانطباع السائد بشأنهم بين كبار المسؤولين في طهران ودمشق، أنهم أميل للاستعراضات المسرحية والتصريحات الطنانة قبل أن يتراجعوا خوفاً على استقرار بلادهم وآفاق ازدهارها.
التعاون الذي نشأ بعد قمة سانت بطرسبرغ بين موسكو وأنقرة ظهرت له أبعاد أكثر مما تطيقه طهران أو دمشق. الجانبان الروسي والتركي باتا يتفاوضان على اتفاقات ومقايضات بعيداً عن شريكهما الإيراني. وعندما يأتيان به، فذلك إما كي يوقع على ما توافقا عليه مسبقاً، أو يتركان له تفجير المفاوضات الثلاثية، ليتفاوضا لاحقاً بشكل ثنائي.
الرد على اتفاق سوتشي وكذلك الحصار الاقتصادي المفروض عليهما، قاد الحكومتين السورية والإيرانية إلى التوقيع على الاتفاقات الإستراتيجية. مضت دمشق خطوة أبعد أطلقت حرباً شعواء على البضائع التركية المهربة وعلى شبكات التهريب. أريد لهذه الخطوة أن تكون إشارة لأنقرة بأن التمتع بفوائد التجارة مع سورية من دون الاعتراف بدمشق، انتهى.
قمة طهران وضعت الأساس للمشهد الشرق أوسطي المقبل، وفيه سنكون شهوداً على احتمالات تصعيد خطيرة، والسؤال من سيتراجع أولاً.