ثقافة وفن

هل يستطيع الفرد السوري مداواة الوجع الجماعي؟ … عبد اللطيف عبد الحميد في «عزف منفرد»: يستعين بالخير والطيبة على شر الحرب

| نهلة كامل

يتوجه المبدع عبد اللطيف عبد الحميد إلى مكامن الخير والطيبة والشهامة في الشخصية المعروفة للإنسان السوري، في فيلمه الجديد «عزف منفرد» الذي شاهدنا عرضه الخاص مؤخراً من إنتاج المؤسسة العامة للسينما.

واقعية حقيقية ومشتهاة
ويبتكر المبدع المدهش من الإحباط والخلاص رغم القسوة ويبني على النقاء والبراءة بل أيضاً الطفولة، فهل هذا ممكن في ظروف الحياة السورية الحالية أثناء الحرب وما بعدها؟
للإجابة عن هذا السؤال السابق يستند «عزف منفرد» إلى أفراد ما زالوا يتمتعون بتلك الصفات الإنسانية الجميلة، ولا يغفل أنهم محاصرون بالشر والإرهاب والضيق الاقتصادي.
ولا يختلف «عزف منفرد» في الرؤية والأسلوب عن أفلام عبد اللطيف السابقة، بل يؤكد مجدداً أن موقفه من الحياة والفن والمحافظة على شفافية روحه وطفولته قادر دائماً على تقديم خلق لا ينضب.
ويستند فيلم عزف منفرد إلى حادثة واقعية، حيث رأى كما قال رجلاً مسناً يتوجع بشدة في أحد المطاعم، لكنه عاد ليخلق في الفيلم واقعيته الخاصة التي جمعت الواقع المشتهى إلى الواقع الحقيقي.
هكذا جاء «عزف منفرد» ليكون آخر فصول تجربة الحياة والفن معاً لدى المخرج، لكن هذا المدهش الجديد الذي يقدمه الفيلم لا يأتي في سياق العادي من حياتنا السورية، بل في ظروف الحرب حيث يحتاج ابتكار الخلاص إلى بصيرة إنسانية وفنية ثاقبة، وروح لا تقبل الخضوع والاستسلام لما هو أقوى من قدرة الفرد على مواجهة الحياة، ليكون عنوان «عزف منفرد» ذا دلالات فكرية وسينمائية حاول الفيلم تقديمها معاً.

عزف منفرد
ولا يستطيع المشاهد فهم عنوان «عزف منفرد» إلا بعد تحليل الموقف العام للمخرج والفيلم من الحياة والإنسان والحرب، وقد يسأل أين هذا العزف المنفرد في ظل ظروف كارثة جماعية، هل هو الواقع؟ أم ما يجب أن يتحلى به الإنسان السوري الفرد كي يواجه هذا الكم الهائل من القسوة والإرهاب والفقر وتغير المصائر البشرية، وهل يستطيع الفرد أن يبتدع ظروف خلاصه وخاصة أن الفيلم يصور أحداث عام 2013 من الحرب على سورية.
تساؤلات كبيرة ومصيرية حاول عبد اللطيف عبد الحميد الإجابة عنها فنياً وفكرياً واعتمد أن يضخ جرعة كبيرة من الأمل والحلم والرمز في الواقع السينمائي، حيث استطاع التقاط زاوية مهمة في حياة شخصيات فيلمه الجديد الذي يصور حياة بيئة شعبية، وآمالاً بسيطة، ومعاناة جماعية قاسية، ليقول إن الإنسان قادر على جعل الحياة ممكنة مهما تفاقمت الصعوبات.
لهذا جاء فيلم «عزف منفرد» ليقدم إيمان عبد اللطيف عبد الحميد بالإنسان ولتكون شخصياته أفراداً متعاونين لإيجاد طريق خلاص نابع من ذاتهم الطيبة في ظروف وطنية قاهرة.

لحن جماعي
ويؤمن «عزف منفرد» أنه إذا استطاع كل فرد أن يلعب دوره الإنساني بمحبة وتعاون ونقاء فإن مجموعة الأشخاص، كل يعزف على آلته الخاصة، تستطيع تقديم اللحن الجماعي المحلق في فضاء النجاة العامة..
ويتفوق جانب التأليف الروائي في فيلم «عزف منفرد»، ليقدم شخصيات مختارة بدقة، ومرسومة بإتقان، تتمحور حول فكرة إنسانية تضيف الحلم إلى الواقع، ليكون الفيلم أحد أهم تجارب سينما المؤلف لدى عبد اللطيف عبد الحميد.
ويختار عبد الحميد الموسيقي، العاطل عن العمل، طلال، العازف على آلة الكونتر باص ليكون بطل فيلمه، هذا الإنسان الذي يتحلى بالشفافية والمحبة والشهامة والإقدام الدائم على فعل الخير، هذه الصفات التي تتناسب مع روح الموسيقا، ليكون على استعداد لابتكار حلول لمساعدة الغير، هذه الشخصية التي أداها الممثل فادي صبيح بكل موهبته المتألقة المعروفة، كانت محور التقاء شخصيات أخرى في تحقيق هدف إنساني نبيل، حيث قدم الفيلم الممثلة البارعة رنا شميس في دور زوجة طلال «سوسن» وصديقته رنا التي أدت دورها بتألق الممثلة أمل عرفة، وصديقه الذي يجد له حلولاً مناسبة لمساعدة المحتاجين.
والفيلم الذي يقدم طلال، بعد أن أصبح يعزف في ملهى ليلي لا يتناسب مع آلة الكونتر باص، كان البداية لتكوين مجموعة تكبر يوماً بعد يوم حيث ينضم إليه صديق على الطبلة، وتقوم صديقته بالعزف على الكمان، ثم تنضم زوجته لتغني بصوتها الجميل، ليقدم الكل معاً لحناً جماعياً يحقق هدفاً إنسانياً نبيلاً رغم أن الجميع يعانون من ظروفهم القاسية الخاصة.

رهان وتحذير
ويعتمد «عزف منفرد» على انتقاء لقطة اجتماعية وإنسانية واقعية ليبني عليها هدفاً سينمائياً واسع الرؤية، واللقطة المدهشة هنا كانت حين التقى طلال بالعم إبراهيم، الرجل المسن في مرحاض عام وهو يتوجع ويعاني من آلام مبرحة بسبب تورم البروستات، فيقوم بإسعافه إلى المشفى ويتكفل دون تردد بتقديم المال اللازم لإجراء عمل جراحي له، وتتسع دائرة المساعدة الإنسانية حيث تتبرع زوجته، بكل شفافية ورضا، بذهبها لأن الأسرة لا تملك أي مدخرات مالية سابقة، كما يستضيف طلال وزوجته العم إبراهيم في منزله أثناء فترة النقاهة، هذا التعاون التام الذي تنضم إليه لاحقاً صديقته رنا بين شخصيات تتمتع بالإيمان لتحقيق خلاص جماعي من خلال فعل الخير هو ما يراهن عليه عبد اللطيف عبد الحميد لتطهير المجتمع من آثام العنف والقسوة والشر المرتكب بحق المجتمع كله.
ويجب أن نتوقف هنا لدى دور الرجل المسن، العم إبراهيم، الذي تألق في تجسيده الممثل القدير جرجس جبارة، ليقدم أحد أهم أدواره الدرامية التي ستبقى في الذاكرة الفنية للفيلم والشخصية لجبارة، الذي أضاءت وجهه هالة فنية من الإبداع والروحانية، واستطاع أن يكون حجر الزاوية في بناء حالة إنسانية استحقت المجازفة من أجلها.
ويطلق الفيلم تحذيره الإنساني وخوفه من أن تستلب الظروف القاسية والتأثر بوسائل الاتصال، جيل الشباب وتفقدهم الإيمان بالإنسان والخير والوطن، حيث يكون ابن طلال الشاب الصغير، أدى دوره اللافت الممثل ورد عجيب، الوحيد الذي خرج عن المجموعة، وكان يعارض دوماً تقديم المساعدة للعم إبراهيم واستضافته في بيت الأسرة.

الكنز الخبيء
ويبتدع عبد اللطيف عبد الحميد نهاية سعيدة لفيلم «عزف منفرد» لكنها نهاية مشروطة، تتناسب مع فكرة الأمل المبني على العمل والمجازفة للوصول إلى تحقيق الخلاص، هي ليست النهاية التقليدية العادية أو النتيجة الحتمية في ظروف قاسية يعيشها الإنسان السوري، بل هي نتيجة من صنع يديه وسلوكه وضميره الذي لم تسكته القسوة ولم تقض عليه الحرب، فالشخصيات المبتدعة في عزف منفرد، تعمل وتغامر وتجازف محاولة التغلب على حياتها بابتكار أساليب جديدة في الحياة، طلال بالعزف والشهامة، وزوجته بالطيبة والعمل كبائعة، وصديقته بقيادة سيارة أجرة للنساء، وصديقه بتقديم المساعدة الدائمة، لكن هذه المجموعة تحقق بسلوكها الفردي الهدف الجماعي، حيث تجازف من جديد بتحرير العم إبراهيم من خطف جماعة إرهابية تطلب فدية مالية قدمتها الصديقة رنا من دون تردد.
وتقدم النهاية السعيدة فكرة لافتة للمجتمع وجيل الشباب بوجه خاص، الذي ربما جعلته الأحداث يفقد إيمانه بأهمية الإنسان وفعل الخير حيث يجد العم إبراهيم كنزاً من المال والذهب في أحد البيوت المدمرة فيجلبه إلى بيت طلال، ويقدمه لابنه الذي يرفض استقباله في البيت من جديد.
هذا الكنز الخبيء الذي يشكل نهاية أحداث الفيلم يقدمه عبد اللطيف عبد الحميد رمزاً للكنز الحقيقي الكامن في الذات الإنسانية والسورية الباحثة عن خلاصها في ظروف حربها القاسية، نهاية تختصر الواقع والرمز والحلم والبراءة بل أيضاً الطفولة البارزة دوماً في شخصية عبد اللطيف عبد الحميد، وتكون آخر لقطة في الفيلم هي التقاء طلال بالعم إبراهيم في مكان البداية ذاته بعد أن أصبح الرجل المسن ضاحكاً ومعافى.

جماهيرية خاصة
ينساب «عزف منفرد» بسهولة، ويتدفق ببساطة، دون تكلف ولا إقحام ولا استعراض، ولطالما كان هذا السهل الممتنع إحدى خصائص عبد اللطيف عبد الحميد، ولا يقدم الفيلم مشاهد خارجية كثيرة بل يعتمد على مشاهده الداخلية في المكان والنفس الإنسانية، ويجب أن نشير هنا إلى الإتقان، الخافي ربما على المشاهد، والكامن في أهم ركائز النجاح السينمائي، التي هي رصد الفيلم للمتغيرات في البيئة السورية الجديدة، وكذلك في التصوير المبدع لشخصيات واقعية لافتة يجب أن تقوم عليها قناعات موضوعية ونتائج منطقية في ظروف سورية قد تغير مصائر البشر وأفكارهم.
فيلم «عزف منفرد» يقدم أسلوب المبدع عبد اللطيف عبد الحميد في أفضل حالاته وهو يبني على حالة إنسانية، واقعية كما قال، عملاً سينمائياً يداوي الجراح بفعل الخير، ويتوجه إلى كل شرائح المجتمع بنقاء نفس وبصر طفل لا يتخلى عنهما عبد اللطيف عبد الحميد بكل أعماله السينمائية.
«عزف منفرد» هو فيلم جماهيري كما قد يقول عنه النقاد والمتابعون والمشاهدون، لكن جماهيريته ليست في رشاقته، وموازاة التراجيديا فيه للكوميديا، أو بساطته فقط، بل في تعبير هذه الجماهيرية عن عمق المعاناة الإنسانية السورية وتصويرها من داخل النفس البشرية حيث يحاول الإنسان مداواة جراحه الواقعية بأقصى ما يستطيع من عمل وحلم وأمل، والفيلم الذي حاز جائزة الجمهور في مهرجان المغرب السينمائي سيكون مرشحاً لنيل جائزة مماثلة أثناء عرضه على جمهوره هنا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن