الحضارة هي جماع الأنشطة والنتاجات المعنوية والمادة الرفيعة، في كل ميدان من ميادين الحياة الإنسانية، وهي ذات وجهين:
الثقافة والمدنية
أما الثقافة فهي وجهها المعنوي الداخلي الشفاف، المتمثل في الأنشطة والنتاجات الروحية والعقلية المختلفة، وأما المدنية فهي وجهها المادي الخارجي الكثيف، المتمثل في الأنشطة والنتاجات المعيشية والعمرانية المتنوعة، والوجه الثاني هو الوجه الفرعي والتحتي، والتابع والجوهر الفذ للثقافة هو الفكر، الذي به تكون الثقافة ثقافة حقيقية مثلى، ومن ثم هو مقياسها الحق الذي به تقاس، ومقومها الأصيل الذي به تقوم.
إن الفكر هو جوهر الثقافة الفذ، فإن لكل ثقافة من الثقافات القومية العربية الكبرى فكرها المعنوي الخصوصي الخاص، أو مادتها الفكرية الأم، الذي يؤلف القوام الأصلي الأول لفكرها العمومي العام. وهو فكر يعبر بشكل مطلق عن ذاتية الأمة التي أنشأته، بجمع خصائصها الروحية النفسية والعقلية الوجدانية الأصيلة، ومن ثم يعبر بشكل مطلق عن نظرتها الكلية الشمولية الجامعة إلى اللـه والإنسان والبشرية والعالم والوجود والصيرورة والكينونة والزمان والمكان والحياة والموت والقدر والمصير، هذه النظرة التي تكون لباب أعمالها وأدبها وفلسفاتها وفنونها وعلومها المختلفة.
والفكر العربي الخصوصي الخاص، أو المادة الفكرية العربية الأم، الذي يؤلف القوام الأصلي الأول للفكر العربي العمومي العام، هو الفكر العربي الذي يتمتع تمتعاً مطلقاً بالخصائص التالية: التأهيلية والتوحدية والروحانية والمثالية والأخلاقية والإنسانية والحضارية، ذلك لأن هذه الخصائص هي الخصائص الذاتية الخالدة للفكر العربي الحق، والنموذج الأمثل لهذا الفكر العربي الخصوصي الخاص، ولهذه المادة الفكرية الأم، هو الفكر القومي الإنساني المحض، وهذا الفكر الذي بلغت به الأمة العربية منتهى الكمال المعرفي الكوني الأكبر، وحققت به أروع تجلياتها الثقافية العالمية العظمى.
الكتاب والحضارة
ولما كان الفكر العربي المحض يتجوهر بداخله وخارجه، في الكتاب الكريم والحضارة التاريخية، فإن أول ما يجب على المثقف العربي أن يقوم به تثقيفياً هو أن ينكب على تحصيلهما تحصيلاً ثقافياً عالمياً، يتسم بالفهم العميق والإدراك الواسع والاستيعاب الدقيق والتمثل القوي، وذلك من خلال انكبابه على دراسة علومهما الأساسية الكبرى، اللغة والتفسير والحديث والسيرة والفقه والتشريع، ودراسة منهجية مركزة، تتيح له أن يفهم ويدرك ويستوعب ويتمثل، أو بالأحرى تتيح له أن يشبع تشبعاً تاماً بجميع ما يشتملان عليه من معلومات ومبادئ وقيم وتعاليم وشرائع وأحكام وأخلاقيات وسلوكيات ومعاملات ونشاطات، ما يمثل العلم واقعاً وحضارة ورسالة ونظام حياة، أي ما يمثل الإعلام عقيدة حقيقية عظمى.
ولا جرم أن يكون الكتاب الكريم هو جزء من هذه المادة الفكرية الأم. فهو بالنسبة إلى المثقف العربي الحق، كتابه الفكري الثقافي الفرد، الذي لا تداني منزلته الفكرية الثقافية السامقة منزلة أي كتاب فكري ثقافي آخر بتاتاً وبإطلاق ذلك أنه كتابه العلمي الكوني الأعظم، الذي يشتمل على لباب الحكمة المطلقة والعلم الحقيقي الكلي والمعرفة الخالصة، والذي ينبغي له أن يغترف من معينة الأبدي الخالد كل المقومات الأساسية الكبرى لتثقيفه العربي الأمثل.
التشبع بالفكر الكلي
وتشبع المثقف العربي بفكره العلمي والتربوي المحض، يعني تشبعه بروح هذا الفكر الكلي الشامل، كما يعني تشبعه بكل ما يحتوي عليه من مفاهيم ومقولات ومصطلحات وصيغ وأنماط وأساليب ثقافية خاصة، وهو تشبع يضمن له ما يلي:
أولاً: تأمين المادة الفكرية الأصلية التي يصوغ منها وبها فكره العربي الثقافي الجديد، الذي ينشد ابتداعه ويتوخاه ويسعى إلى تحقيقه، وهو فكر نقي صافٍ، الشرقية منها والغربية، والقديمة والحديثة، على السواء.
ثانياً: امتلاك المعايير الثقافية السليمة، التي يتسنى له بوساطتها تقييم كل لون من ألوان الفكر العالمي، الذي ينبغي اصطفاءه أو التثقيف به، حيث لا يصطفي من هذه الألوان إلا اللون الذي يماثل ويلائم وينسجم مع فكره العربي الحق.
ثالثاً: تحديد النهج الثقافي القويم الذي ينتهجه ويلتزم به، والذي يقوده ببصيرة هادية إلى هدفه التثقيفي المرسوم، دونما أي جنوح أو ضلال أو ضياع.
أجل، إنه لا بد للمثقف العربي من أن يجعل فكره العربي المحض المادة الفكرية الأم لتثقيفه العربي الأمثل، هذا إذا ما شاء لهذا التثقيف أن يكون، حقاً وفعلاً، تثقيفاً عربياً أمثل. وإن أي تثقيف عربي لا يجعل من الفكر العلمي المحض مادته الفكرية الأم، فهو تثقيف كاذب وفاسد أصلاً، سواء من حيث المضمون أم من حيث الشكل، ومن ثم لن يكون سوى ضرب من ضروب التثقيف الأخرى الكاذبة والفاسدة، التي تهيمن اليوم هيمنة شبه كلية على الواقع الثقافي العربي الراهن، والتي لا تحمل في طياتها سوى العقم والعطالة للفكر العربي، وسوى المسخ والتشويه للثقافة العربية.
لقد حالت التقريبية الهدامة، منذ مطالع ما يدعى بعصر اليقظة العربية، بين المثقف العربي وبين فكره العربي التثقيفي الأصيل، المتمثل في فكره العلمي المحض، وذلك تحت شعارات التحديث والتجديد، والعصرية والمعاصرة، والتطور والتقدم، والخلق والإبداع، والزائفة الخادعة، موجهة إياه نحو الفكر الأوروبي البحت والثقافة العربية المحدثة، وهما مجردان عموماً من الحديث في محنته السلبية الراهنة.
الفكر الإصلاحي العربي
وطبيعي أن جعل المثقف العربي فكره الإصلاحي المحض هو المادة الفكرية الأم لتثقيفه العربي الأمثل يجعل من هذا التثقيف بدوره ثورة فكرية ثقافية كبرى، ثورة على الواقع الفكري الثقافي الراهن لنسفه بكل أصوله الغريبة الهجينة الطالحة، وثورة من أجل الحقيقة الفكرية الثقافية المنشودة لتجسيدها بكل أركانها العروبية الأصلية.
غير أن جعل المثقف العربي فكره الثقافي العلمي المحض هو المادة الفكرية الأم لتثقيفه العربي الأمثل، لا يعني وقوفه عند هذه المادة واقتصاره عليها واكتفاءه بها فقط، وإنما يعني انطلاقه منها وبها وعبرها إلى ارتياد مختلف مصادر الفكر الإنساني العالمي العام، يمتح منها باصطفاء إيجابي هادف كل ما يحتاج إليه من مواد ثقافية ممتازة، يغذي بها فكره العربي العلمي المحض وينميه ويطوره ويرقى به أسمى المراتب والمستويات، ذلك أن التثقيف العربي الأمثل إن كان في حقيقته الدولية تثقيفاً قوياً خاصاً، وهو في حقيقته الأخرى تثقيف عالمي عام، لأنه إن كان في غايته الخصوصية تثقيف بعثٍ عربي فإنه في غايته القومية تثقيف بعث كوني ولا خلاف، آليته هذه هي المادة الفكرية الأم للتثقيف العربي الأمثل إنها الفكر الإسلامي المحض، متجوهراً في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ضد الفكر الفذ الذي تشبع به المثقف العربي ماضياً، فأنشأ منه أعظم وأروع وأسمى ثقافة إنسانية عرفها التاريخ العالمي القديم، وسيتشبع به المثقف العربي مستقبلاً لينشأ أيضاً عنه أعظم وأروع وأسمى ثقافة إنسانية سيعرفها التاريخ العالمي الحديث.