من دفتر الوطن

عصر الجنون!!

| عصام داري

تذكرت قصة «همس الجنون» التي كتبها الأديب الكبير نجيب محفوظ في أول مجموعة قصصية له تحمل الاسم نفسه، تذكرت هذه القصة القصيرة عندما لاحظت أنني أتحدث مع نفسي بصوت مرتفع، وحمدت اللـه لكوني وحيداً ولم يكن أحد بالقرب مني.
هكذا كان يتصرف بطل تلك القصة، فهل بدأت خطوتي الأولى نحو عالم الجنون؟ وهل من علامات الجنون أن يتحدث المرء مع نفسه؟
وجدت أن للجنون فوائد لا تحصى: أولاها أن المجنون قادر على قول أي شيء يخطر في باله من دون خوف من حسيب أو رقيب، فليس على المجنون حرج!
المجنون – والحمد لله– لا يهتم بكل مشكلات الناس، ومشاغل الحياة، فهو غير مسؤول عن أحد ولا يحتاج إلى متطلبات عصرنا وبلدنا من كهرباء وغاز ومازوت وبنزين وخضراوات وفواكه ولحوم (هل قلت لحوم؟!) وحلويات (أشتهي المبرومة والبللورية من عهد الإغريق!) ولا تنقصه المكسرات، فهو يأخذ منها ما يشاء من محال بيعها وبرضا أصحابها!
منذ طفولتي وأنا أتساءل عن هذه المخلوقات التي تسمى «مجانين» لأنني شاهدت بأم العين مجانين تنطق شعراً وزجلاً جميلاً.
أذكر في طفولتي أن والدي صحبنا في مشوار إلى مدينة دوما وكرومها العامرة (رحم اللـه العنب الدوماني والديراني الذي انقرض) وهناك اشترينا أرغفة خرجت للتو من التنور وجبنة بلدية طيبة المذاق، ووقفنا أمام كرم تكاد عناقيده تشع كالياقوت، فاخترنا بعض عناقيد هي الأكثر نضجاً وحلاوة، ربما كانت تلك الوجبة على بساطتها أطيب من لحوم اليوم المقددة أو البيتزا والهمبرغر وغيرها من الأطعمة التي تسبب مرض الجهاز الهضمي.
المهم في الأمر أن الجولة يومها قادتنا إلى مشفى ابن سينا للأمراض العقلية التي تعرف بـ«مستشفى المجانين»، وقفنا قرب السور المصنوع من الأسلاك غير الشائكة وأدار والدي حديثاً مع المقيمين في ذلك المبنى الكبير، أي مع المجانين، أو الذين رأى مجتمعنا أنهم كذلك.
مع أنني كنت طفلاً، إلا أنني نظرت إلى هؤلاء بعين الريبة أولاً، ومن ثم انطلاقاً من حب الاستطلاع لأعرف ما الفرق بين العاقل والمجنون، والغريب أن كل الحوارات التي تمت عبر هذا الحاجز بين من هم خارج المشفى– السجن، وبين من هم يقضون عمرهم وراء الزمن.
يومها أعطى والدي أحد «المجانين» الذي كان المحاور الأول، ورقة نقدية من فئة الليرة، وكانت مبلغاً معتبراً، إذ كان راتب موظف من الدرجة الأولى لا يتجاوز المئة وخمسين ليرة، وما فاجأنا يومها، أن ذلك الشخص رفع الورقة النقدية وأنشد شعراً فصيحاً يتغنى بهذه الهبة وفي مديح من منحه إياها، وسألت نفسي: كيف لشاعر أن يكون مجنوناً؟
هل «المجانين في نعيم» كما يقول فيلم إسماعيل ياسين، وهل الجنون الحقيقي هو الذي نشاهده خارج مشفى المجانين؟
والسؤال الأهم: ما أسباب الجنون الرئيسة؟ هل ضيق العيش، أم المرأة والرجل والمسؤول والمواطن والقوانين والأنظمة؟
هل الحرية لها علاقة بالجنون، فعندما يشعر المرء أن هناك من يسلبه حريته تثور ثائرته ويختار الجنون، عندها يصبح المجانين في نعيم ويبدأ عصر الجنون!.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن