لكل ظاهرة تاريخية منظومة فكرية حتى لو لم تكن مقولبة إيديولوجياً، إنما تحاول طرح نفسها عبر شبكة علاقات وصيغ طارئة على المجتمعات التي توجد بها، فقد تستطيع هذه الظاهرة إحداث تغيير ما متفاوت الشدة في هذه المجتمعات أو قد تكون المجتمعات نفسها متماسكة بنيوياً وإيديولوجياً بحيث تلفظ الظاهرة الجديدة أو تهضمها لتعيد بناء نفسها من جديد.
ولم يكن ما يسمى «الربيع العربي» بمعزل عن غيره من التصورات الفكرية الطارئة على المجتمع العربي الذي لم يشهد سابقاً ظاهرة النزول للشارع من قبل مجموعات شبابية، ولو مدفوعة خارجياً، للتعبير عن المطالب، وإن كان هذا «الربيع» مجرد انزياح لما يسمى «الثورات الملونة» سبق أن شهدته أوكرانيا في أوروبا الشرقية عامي 2004 و2005، ولكن القوى التقليدية في المجتمعات العربية المتمثلة بحركات الإسلام الراديكالي استطاعت ركوب هذه الاحتجاجات لتستغلها ويسيطر «الإخوان المسلمون» بسرعة على تونس وليبيا ومصر خلال فترة وجيزة وبدعم أميركي أو على الأقل، بغض نظر وتسهيل، تم الكشف عنه لاحقا.
كما لم يكن من المستغرب أن تستغل «الإخوانية الجديدة» في تركيا المتمثلة بـ«حزب العدالة والتنمية» ما يحدث في المجتمعات العربية لمحاولة الإشراف المباشر والتحكم، فرأينا صعود الأحزاب والقوى الموالية لتركيا فجأة في انتخابات جرت على عجل قبل إنضاج حراك الشوارع وقبل أن تستطيع الأنظمة السياسية التقليدية في المجتمعات العربية التقاط أنفاسها.
في المقابل فإن الأنظمة الراديكالية العربية في الخليج، وبحكم سطوتها المالية خشيت على نفسها، فهضمت الحراكات «الربيعية» بضوء أخضر وتوجيه أميركي، لتقدم نفسها كممول وراع لها، ونجحت في البداية في تجنب وصول «الربيع» إليها مع السيطرة على الأحداث البحرينية، لكن في المرحلة الثانية دق الحراك أبوابها، فالأزمة اليمنية في الحديقة الخلفية للسعودية، والتطورات التي حصلت في العراق كانت تهدد الأمن الكويتي بشكل أو بآخر، ومن ناحية أخرى ازداد العداء مع إيران في الخليج العربي، وفي المرحلة الثالثة التي نشهدها حالياً بدأت تتحول مكاسب هؤلاء إلى خسارة، مع الانتكاسات التي تعرضت لها حركة «النهضة» في تونس، واستبعاد الإخوان عن السلطة في مصر، والانتصارات التي تحققها سورية على التنظيمات الإرهابية.
ضمن هذه السيرورة يمكن القول إن الدول العربية غير الخليجية تستفيق مؤخراً للدور الخليجي لكن من دون جدوى، فما زال بعضها في الحضن الخليجي في صيغة «الولاء مقابل الحماية والتمويل».
وفي سورية، عندما رأت «الإخوانية» بوادر فشلها، سارعت لحمل السلاح وحاولت تقديم نفسها كـ«ثورة للريف» مع العام 2013 إلا أن ما مارسته من إرهاب وترويع سرع من تصنيفها ضمن الإرهاب العالمي لكن تأخر الإعلان عن ذلك غربياً، كي يتاح لهذا الغرب استغلال الأزمة السورية لمصلحته هو وأدواته، إلا أنهم اليوم وبصمود الشعب السوري وتضحياته وحنكة قيادته باتوا يعلمون أن المخطط الأساسي فشل، وتم الانتقال إلى مخططات دقيقة أكثر جزئية تلعب على الهوامش التي تتيحها التفاصيل.
وإذا أخذنا بالتراكم الاقتصادي والسياسي كممول لزعزعة الاستقرارات المجتمعية، يبدو اليوم أن «الإخوانية الجديدة» لم تجدد نفسها بهذا فحسب، إنما اتخذت خطوات متقدمة عبر اللعب على تكوين انتماءات عابرة للحدود، نمطها الأساسي ثقافي، لكنها استغلت ضعف الأطراف في ظل قوة المركز.
خلال الحرب أظهرت دمشق كمركز للدولة، منعة سياسية وعسكرية، في المقابل كانت بعض التصرفات الفردية تقود لإضعاف الأطراف السورية في أقصى الشمال، مع تركيا، والجنوب مع الأردن، والشرق مع العراق، والغرب مع لبنان، لذلك استغلها الإرهابيون وسيطروا عليها ومن ثم رأينا تمدد داعش في الشرق ونفوذاً إسرائيلياً في الجنوب، ونفوذاً تركياً في الشمال، عبر محاولات التتريك والتركيز على «المجالس المحلية» وفتح فروع للمؤسسات الرسمية التركية في مناطق تحتلها ميليشيات وتنظيمات رجب طيب أردوغان في سورية، مستغلة التكثيف الفكري «الإخونجي» الذي تحصّل بفعل انتقال بضع آلاف إلى الشمال بعد المصالحات في المناطق المختلفة في محاولة لإنشاء رابط إيديولوجي مع تركيا.
ومؤخراً أتت محاولة تجنيس السوريين في المناطق القريبة من الحدود، لتليها محاولة إنشاء «المنطقة الأمنية» وترحيل السوريين المجنسين في تركيا إليها، لخلق أذرع اجتماعية سياسية اقتصادية، ومن ثم تشكيل قوى مرتبطة في مراحل تالية، تدفع أردوغان لمطالبة لاحقة بضم تلك المناطق إلى سيطرته كما سبق أن فعلت تركيا عندما استولت على لواء إسكندرون.
في المقابل يبدو من المستغرب الصمت العربي إزاء تلك المحاولات إذ من الواجب اليوم على القوى الخليجية، ومن باب المصلحة أكثر من أي باب آخر، الانخراط بفعالية مع شركاء في الشمال لكبح الطموحات الأردوغانية، وليس ثمة شريك سياسي اقتصادي عسكري اجتماعي أكثر من الدولة السورية، بعد إخفاق رهانهم على الأميركيين.
لن تكون الأموال التي يمكن أن تقدمها الدول الخليجية لإعادة الإعمار قروضاً أو هبات أو حتى مساعدات مشروطة بقدر ما هي واجب دفاعي على تلك الدول لتبقى المخططات «الإخوانية الجديدة» بعيدة عنها، لأن أوروبا قد تجد في مراحل مقبلة أن نظام اردوغان نموذج يمكن التعامل معه لطمأنة «الإرهاب العالمي» أن أوروبا على الأقل ليست عدوه.
وعلى الخليج أيضاً إقناع الإدارة الأميركية برفع العقوبات عن سورية خدمة لمصلحة أميركية أكبر تتعلق بضبط المشاغب التركي.