الفلسفة معرفة، لا تُعرّف بالمفاهيم الضيّقة التي غدت ضمن واقع واسع وشاسع عبر النظر، وصغيرة جداً في العقل نظراً لاتساع الفكر واحتوائه لمكونات كوننا الذي سكنه، وذهب إلى استكشافه، إلا أن المعضلة الرئيسة التي تحولت إلى هذه الوساعة الفكرية وضآلة نتاجها أظهرت لنا انحسار الفلسفة وانتفاء ملكة التأمل بعد أن أنجز الماضون تقريباً كل شيء على الأرض من لحظة تحويل الأشياء إلى معارف، وانتقلت الندرة من الحداثيين للبحث في محيط كوكبنا الحي والوصول إلى الكواكب الأخرى.
هذا يأخذ بنا لأن نسأل هل انتهت عصور الفكر الحر، وضاعت سبلها، وفقدت الفلسفة شخوصها؟ لذلك نجد مريديها الحداثويين يتغنون بأولئك النافذين الذين أشادوا للفلسفة مكانة متزنة ومنسجمة، وجعلوا منها مثلاً أعلى للحق في الفكر وللحق في الحياة، فتبنتها الشعوب، وتمسكت بها كنوع من الاستقلال الإنساني، إلى أن حوربت بشكل عنيف عبر شخوص لا حرية لهم ولا كرامة، قبضوا ثمن بثِّ سمومهم عبر دعم الاتكالية والغيبية والظلامية والانعزالية والانهزامية وتعميم طرق صوفية بعيدة كل البعد عن مضامين التصوف الذي يفترض أن يكون منبعاً للتأمل والإبداع والاختراع، هؤلاء الذين يشيعون الشعوذة، ويستجلبون الخرافات السخيفة، يوجهون بها البشرية نحو الوراء.
هل انتهى زمن أولئك الفلاسفة، وانتهى معهم تاريخنا الفكري، ليبدأ تاريخ قومنا كقوم آخرين؟ أين نحن مما قاموا به رغم معاناتهم الهائلة؟ فنحن اليوم تتناهبنا الكوارث والمحن نتاج فقدنا لعناصر التوازن الإنساني، وعدم احترامنا لنظم الحياة، واستسهالنا للطاقات البشرية وعقولها المديرة وقواها الفاعلة التي أنجزت أمهات الفلسفة والعلوم والأديان، وطبيعي أن يكون الإنسان الفاعل الرئيس فيها، التي لولاه لما كانت الحياة ولا هذه الأبجديات، وهدف الإنسان الارتقاء بذاته، فهو وجد بغاية فتح بوابات العلم لا التعلم، والإيمان لا التدين، لم يؤمن بالمصادفة، وناهض العفوية، وأوجد أسساً للمعجزات بعد أن تشرب جوهر الفلسفة التي أنشأت الفنون من خلال التأمل البصري التبصّري في الإنسان ومحيطه الكوني.
الفلسفة ليست مطلقاً، ويسجل لها أنها جوهر العلوم، وحينما أدعوكم إليها لا من أجل التفلسف، بل غايتي إيجاد الحلول، وفي الوقت ذاته البحث فيما تخلفه من تناقضات فكرية، ففيها أبواب للاجتهاد، ومعها تتذوق البشرية معنى الحياة أمام محاولات منع الفكر، فهناك من يقول لا تلقوا بدرركم بين أرجل الخنازير فتدوسها (من الخنازير؟) أي منع المعرفة، وبعضهم يتحدث عن ضرورة منع الوعي والحكمة عن الناس، لأنها تفسد السياسات العامة، أقوال قابلة للتأويل، هل توافقون على هذا؟
طبعاً ورد هذا في المشاريع الدينية التي تبتعد عن الإيمان، والإيمان فلسفة، بهذا لا أستقل بوجودي عن زماني ومكاني، ولا عما يجري فيهما من أحداث وأفكار وتحولات وتبدلات اجتماعية وسياسية، إنما أجدني منخرطاً فيه، وأدعوكم لممارسة أدواركم كل من موقعه، لأن الواقع الإنساني الذي تحول إلى بشري غابي غدا أكثر من مؤلم وجارح وسقيم نتاج فقدان التأمل والوصول إلى حلول ناجعة، تعيد للإنسانية بريقها بعد تفعيل فكرها بدلاً من تحويلنا إلى فرائس باردة، تقدم لأرباب الصيد من البغاء الوالعين في الدماء، الذين لا يفرقون بين دماء البشر ودماء الحيوان.
من الذي يقدر أن يسكت أمام كل هذا التشويه والاستغلال للأرض والإنسان؟ من يسعه أن يمسي ويصبح وهو مغمض العينين مطبق الشفتين، لا يحرك ساكناً، ولا ينقذ أو يساعد محتاجاً هامداً، ليس على الحركة فقط، وإنما حثّه على فهم الحياة والعمل لنفسه ولها؟ المتكبرون على من يتكبرون؟ والبسطاء كيف يعيشون من دون حياة، وفي الوقت ذاته يعملون؟ والفلسفة تقول كلما ازداد المرء بساطة وهو على علم وجاه ازداد كمالاً، فالجاهل والمستهتر والمتكبر يشوهون كل أنواع الجمال بمجرد النظر إليه، أو حتى لمسه، كيف بنا ننوره؟ إن العقول الشاردة وما أكثرها هي وحدها التي حجبت عنها قيمة وقوة الحياة وجمالها.
قرون عدة ونحن ننهل من معين عبقريات فاضت وغادرت في حينها، والناس تسأل وتنتظر تقدم آخرين لترتقي إلى جديد، أولم ينهِ الفكر صيامه المديد، وينشط في هذا العالم الكسول فكرياً والنهم من السياسات المادية؟ هل انتهى زمن التأمل والحب والفكر الخلاق؟ هل توقفت المعرفة العميقة البارقة والشاملة نتاج التجارب العلمية التي ربما اجتهدت كثيراً على إخصاء الفكر اللامادي لمصلحة المادي؟ لأن الفلسفة التي تمثل أم العلوم وجمال الفنون وجوهر منظومة الأديان لا ظاهرها العبودي تحت مسمى التعبدي تجسد حقيقة الإنسانية، هل حدث شرخ بين الإلهام والفكر وكل منهما مضى في طريق؟ حيث إننا لم نعد نرى رسلاً أو فنوناً أو عبقريات، يبدو أن الطبيعة منعت إلهامها نظراً للاعتداءات السافرة عليها.
لماذا غدا العالم تائهاً بين مفاهيم ضيقة؟ وحالما ندقق في مجريات سلوكه نجده منقسماً وشارداً موزعاً بين الغزاة الجبارين وتجار وقادة مستأجرين، وشعوب حالمة غافلة خانعة، همُّ يومها أن تملأ بطونها بأرخص الأثمان، تمارس الجنس ولم تصل نشوته، لأنه بلا حب، تتعبد لأنها رغبت في أن تكون عبدة ومستعبدة، ماثلت عبادتها عبوديتها، وتمسكت بها كعادة سرية في جوهرها ودينية في مظهرها، تنتج كالآلة وهي لا تدرك ما تنتج؛ أي لم تفحص منتجها، ولم تقدر أن تمنحه رقم الجودة، تنتظر رحيلها إلى بدّها الذي لابد منه، أليس معيباً هذا التطاحن على المادة والتواطؤ البائس على الحياة؟ عالم تملؤه الآلام والفواجع، وتتناهبه الأحزان، متى سيتزحزح كابوس الجهل والمراوغة والخداع؟ متى يومض الفكر الإنساني، ويشع بالأحلام الإنسانية لا البشرية، وتنطلق مجاميع الأحاسيس والميول إلى الإبداع الإنساني؟
لمَ نحبس أنفسنا ضمن الأصفاد الدينية والسياسية والاجتماعية؟ لِمَ نؤطر ذاتنا ضمن المادة الزائلة؟ نحن من نسبب لأنفسنا العقم الفكري العامل الرئيس لعدم رؤيتنا لجمال الحياة وأدبياتها، لماذا نلجأ للحروب والثورات المدمرة التي تدمي أفئدة الإنسانية، ونقلق هناءها، ونهيج روعها؟ لماذا لا يسعى هذا الإنسان للعيش بسلام، ويعمل على تطويره بالحب مادام يعلم أن حياته عابرة، وليست بالطويلة؟ فعليه أن يكون فيها زائراً نافعاً ومقداماً بانياً ومحارباً من أجل الحفاظ عليها، لا عاملاً على هدمها وهتكها بالتكبر والتقوي بمفردات الأنا والشهوة والجنون مع المجون، لابد من تغيير الرؤية بعد أن نرى وندرك ماهية الحياة وإهاب كوننا الفائق الجمال الذي يحيطها من خلال الواقع الذي نحياه.
فلسفة الحياة تقدم الواقع ممزوجاً بالتطلعات والأحلام الجاذبة إلى الأمام؛ أي إلى المستقبل من دون الالتفات إلى الماضي، مع اعترافها الدائم بأن هناك وجهات نظر تؤمن بالشك الموصل إلى اليقين، وتتحدث عن أن أي إجابة مطلقة تنفي ذاتها بذاتها، فالإنسان ابن الحاجة، والحاجة تحتاج إلى تأمل، والتأمل ينتظر الوحي شريطة حدوث الاجتهاد النوعي والمسير الصحيح، لأن منه تكون الحاجات، وهذا هو بعين ذاته السعي للبقاء المؤقت ضمن الحياة المستمرة التي تظهر الصراعات بكل أشكالها على المال الذي ينجب الحروب والخصومة، وعلى الجنس الذي يؤدي أيضاً إلى السرقة والقتل والاغتصاب، وأيضاً على الكرسي السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ليتبين لنا أن فلسفة الحياة تعني الصراع من أجل الأفضل، وبالاستناد إليها تنهي الأسوأ، ومن دونها تسيطر غيبية الأديان على الوجود، ومعها يكتشف المستور، فهي سرُّ الحياة، والبحث عنها وفيها يعني استمرار الوجود ضمن ساعة الحياة.