ثقافة وفن

المعتمد بن عباد الملك والحب

| إسماعيل مروة

عُرف المعتمد بن عباد في التراث العربي بحكايته المعبرة والمؤلمة في الوقت نفسه، فهو الأمير الذي اختلف فيه المؤرخون، من مادح له، ومنهم من رآه مفرطاً في حق الدولة ومقصراً ومبذراً، واختلقت حوله حكايات كثيرة في بعضها رائحة الصدق والحق، وفي أغلبها يظهر نسج القصاص الذين صاغوا القصص المؤثرة والمشوقة، ومما نسجه حوله القصاص وبالغوا في تضخيمه (يوم المسك) إذ يقال: إن المعتمد بن عباد أحب جاريته الجميلة اعتماد الرميكية، وتزوجها وأنجب منها، وكان يهيم بها ويدللها ولا يرفض لها طلباً، وجعلها سيدة على مملكته، وذات يوم ماطر اشتهت اعتماد أن تغوص قدماها في الطين كما النسوة اللواتي تراهن من شرفة القصر، لكن المعتمد الحاكم والسيد والعاشق أبى أن تكون اعتماد زوجته كسائر النسوة، فأمر بالتراب والمسك والعنبر، وقام بمزجه ومدّه على أرض القصر لتدوسه اعتماد بقدميها الغاليتين عليه، ويبالغ القصاص فيقولون: إن حفل الطين هذا استهلك أموال الدولة كلها، ولكن المعتمد كان سعيداً، واعتماد كانت مغتبطة بما فعله المعتمد..!
وبما أنه لا شيء يدوم على حاله، فقد جاء ابن تاشفين، وبدعوة من الملوك، ومنهم المعتمد، وسيق المعتمد بن عباد أسيراً بتهم تشبه تهم الفساد في أيامنا، ونفي إلى الصحراء المغربية، وفي منطقة قاسية تدعى (أغمات) وفيها عاش المعتمد فقيراً معدماً على صدقات الناس، وإتماماً لرواية مخرومة يقول الرواة: إنه لما ضاقت الحال بالمعتمد وأسرته، قالت له اعتماد: والله لم أر منك يوماً حلواً! فقال لها: ولا يوم المسك؟! فاستحت وخفضت نظرها.
هذا هو الجزء الوعظي الذي صيغ للاتعاظ، وقد يكون حقيقة، وقد لا يكون، لكن سياقه يجعله مقبولاً في إطار عدم حساب الإنسان للقدر وتصاريفه، وليس في إطار نكران المرأة وتنكرها كما يريد كثيرون الإشارة إليه في هذه القصة!
قد تطمح امرأة وقد تطمع فيمن تحب، ولكن ليس من حق أحد أن يختلق القصة التي تناسبه، أو التي عاشها ليسقطها على شخصية تاريخية بوزن المعتمد بن عباد واعتماد الرميكية! قلت قد تكون هذه القصة مقبولة في إطار الحديث عن الهدر والتبذير وذم الحاكم الذي يتبع هواه، وخاصة إذا ما عدنا إلى ديوان المعتمد وشعره فنجد جوهرة ووداداً واعتماداً وكثيرات من الجواري اللواتي كنّ يحطن بالمعتمد ومحط اهتمامه وغزله وأعطياته!
ولكن إذا ما عدنا إلى الحاكم والحب، وإلى المعتمد واعتماد فإننا سنجد شيئاً مختلفاً، وعندما سيق المعتمد إلى أغمات مأسوراً لم نعد نجد لجوهرة ولا لوداد ولا لأي جارية أثراً في حياته، وبقيت اعتماد معه تذوق شظف العيش، فلو كانت متنكرة كما يقولون فإنها ليست بحاجة لحياة الذل والفقر، ولولا الحب ما كانت اعتماد سلوته الحقيقية والوحيدة.
فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً
وكان عيدك باللذات معمورا
وكنت تحسب أن العيد مسعدة
فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة
في لبسهن رأيت الفقر مسطورا
يطأن في الطين والأقدام حافية
تشكو فراق حذاء كان موفورا
قد لوثت بيد الأقدار واتسخت
كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
هذا مما قاله المعتمد حين كان مأسوراً، فماذا كانت عنده اعتماد؟
أدار النوى كم طال فيك تلددي
وكم عقتي عن دار أهيف أغيد
حلفت به لو قد تعرض دونه
كماة الأعادي في النسيج المسرد
لجردت للضرب المهند فانقضى
مرادي وعزّ ما مثل جد المهند
فما حل خل من فؤاد حليله
كلّ اعتماد من فؤاد محمد
يعرّي نفسه من إمارته وألقابه، ويبقى باسمه المفرد محمد أمام الحب وأمام اعتماد التي دفعها حبها للمعتمد أن تسير معه الى منفاه وسجنه في أغمات، لتعمل في خدمة الناس وتلبية متطلبات الحياة القاسية، وربما كانت إشارة المعتمد إلى أقدام بناته والمسك وراء نسج القصص حول يوم المسك والطين، وهي صورة طبيعية أن يقولها الشاعر الملك الذي نزل من عليائه طوعاً لتوحيد بلاد الأندلس، فوجد نفسه أسيراً مأسوراً يعامل معاملة النخاسة، ولكنه على كل حال بقي محتفظاً بالحب وباعتماد حتى مات مأسوراً في أغمات.
تتفاوت آراء النقاد في النظر إلى حكاية المعتمد، فمنهم من يرى أنه جلب ذلك إلى نفسه بالهدر والاستهتار، ومنهم من يراه ضحية للفساد، وبأنه غدر به وبنياته، وهذا التفاوت يعرض في أغلبه إلى قصة عشقه لجاريته اعتماد الرميكية، وما أسقط على السياسة نزل في ساحة الحب الكبير الذي حمله لاعتماد، والتي يحاول الكثيرون تجاهل بقائها مع المعتمد حتى في الأسر والفقر، ولولا الحب ما فعلت ذلك، وأصل إلى ما أردت الحديث عنه من اختيار المعتمد والحب، أو الحاكم والحب، إذ يعرف القارئون أن ما جرى في الأندلس في تلك الحقبة من تاريخنا لم يقف عند المعتمد بن عباد، بل نال أغلب الحكام والملوك، وهناك ملوك كثيرون قبله، فلم نسمع بمن جاء قبله أو من عاصره أو من جاء بعده، لأنه كان حاكماً وحسب، أما المعتمد، فقد كان حاكماً وحالماً ومحباً وأديباً، وما جرى معه وصلنا ليس لأنه وضع المسك والعنبر وخلطه بالتراب، بل لأنه شاعر امتلأ إحساساً وشاعرية سواء كان فاسداً أم صالحاً، لكن شعره وأحاسيسه هي التي جعلته خالداً أبداً وباقياً ومذكوراً! وكل ذلك لم يأتنا من وداد أو جوهرة، بل جاء من عشقه الكبير لاعتماد، وهو يرى تقلب قدميها وأصابع القدمين، لها ولبناتها في أغمات، وكأنه يحن إلى بخور ومسك كانت تنفثه هذه الأصابع ذات يوم!
قالوا: إن المعتمد كان فارساً يبدّل عشرة أفراس في القتال لأنها تتعب وهو لا يتعب..! وقالوا: إنه كان قائداً وملكاً من الأهمية بمكان، لكن كل ذلك ذهب وبقي الجوهر.
الحب وحده صنع لنا تاريخ الأشخاص المميزين ولا شيء سواه، ذهب حكمه وسيرته، وبقي حبه وحزنه علامة النبل الكبير.
ولو كانت صاحبة يوم المسك لقالت له: أنسحب من حياتك أيها الملك المأسور، وأتركك لأسرك ولبناتك وحياتك، وربما تمنت له أسراً سعيداً، لكنه الحب الذي حولها إلى نور عين وسلوة روح وشريكة فقر ونهاية رحلة..
لم تنسحب لأنها المسك نفسه!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن