قضايا وآراء

بين الصراع الإيديولوجي والأفكار التي لا تموت: ثورة الثامن من آذار مثالاً

| فرنسا- فراس عزيز ديب

في هذا الشرق البائس، باتت كلمة ثورة أشبه بمصطلح مرعب لا يعني إلا الدمار والقتل، لدرجة بات فيها المواطن يتمنى إلغاء هذا المصطلح حتى من الكتب الدراسية ولو للدلالة على «الثورة الصناعية» مثلاً.
لكن في الوقت ذاته هناك من يرى بما يجري في «ثورات» اليوم فرصةً مناسبةً لتصفية الحسابات المتراكمة مع هذا الخصم السياسي أو ذاك، فهناك مثلاً من يخرج علينا بخطاب تنظيري نكاد نشك أنه يعيده في كلّ عام ليحدثنا فيه عن عظمة هذه الثورة أو تلك، لدرجة بتنا فيها من حجم جرعات التنظير التي نتلقاها نظن أن تاريخنا يبدأ من تاريخ هذه الثورة، ليرد عليه أصحاب الخطابات المتدثرة بـ«الفوقية الإيديولوجية» بخطاب تأكيد أن الثورات متشابهة من حيث سعي قلة قليلة للاستحواذ على مكتسباتها السلطوية، أو أن يقول مثلاً إن الثورات متشابهة من حيث سقوط قتلى أو ضحايا أبرياء، وكأنه يريد إقناعنا أن هناك في التاريخ من قام بالثورة للتغيير دون السعي للسلطة، أساساً استلام السلطة هو أساس التغيير.
بين هذا وذاك، عادت هذه الأيام الذكرى السنوية السادسة والخمسين لثورة الثامن من آذار وعاد الحديث عن هذه الثورة بين من يراها بسياق «الثورة العظيمة والمجيدة»، ومن يعتبرها سبباً بإعاقة التطور التجاري والاقتصادي الذي كانت سورية تمثله في هذا الشرق تحديداً في المدن الكبرى كحلب ودمشق، ليذهبوا أبعد من ذلك للقول إنها مجرد انقلاب عسكري لتفعيل حكم العسكر.
إنّ أي مقاربة حساسة لموضوعات كهذه يبدو فيها من حق كل شخص الدفاع عن وجهة نظره وبمعنى آخر: بالتعاطي مع أي حدث كتجارب الآخرين النضالية، إن كنت تنظر للإيجابيات وتعوّمها وتتجاهل السلبيات، فببساطة أنت هنا لا تقيّم بل تحتفل وتهلّل، وإن كنت لا ترى إلا السلبيات وتتعامى عن الإيجابيات فأنت هنا ببساطة لا تقيّم بل تتهجّم، وبمعنى أدق أنت تكذب لأن الكذب هو ملح وجودك لا أكثر ولا أقل.
من جهة ثانية فإن هذا النوع من الصراع نراه أكثر ما نراه في صراع الإيديولوجيات، صراع وسجال في الطبقات الدنيا من المنتسبين لهذا الطرف أو ذاك، هؤلاء يذكرونك بمقولة السيد المسيح عليه السلام: (أخرج أولاً الخشبة من عينك، وحينئذ تبصر جيداً، أن تخرج القذى من عين أخيك)، إذ لا يمكنك ببساطة أن تنتقد من يريد بإيديولوجيته أن يوحّد الدول العربية وتسخر من هذا الشعار، على حين أنت تعيد علينا ليل نهار خطاب إمكانية استعادة قبرص، أو توحيد عمال العالم مثلاً، والعكس صحيح، مفارقةٌ غريبة ربما لا يراها ببعدها الحقيقي إلا المتحررون عملياً من «هوس الإيديولوجيات»، حتى بتنا كمواطنين بسطاء نعاني ربما صداعاً بالرأس من تخمتها.
إن عملية السعي والترويج الفكري بهدف كسب المواطنين غير المحازبين هو أمرٌ صحي، لكنه يجب ألا يستند لفكرة تقزيم الآخرين، أي عليك أن تقنعني بأفكارك عبر إنجازاتك، ولا تحاول أن تقنعني بها عبر إظهار سلبيات الآخرين، هذه رؤية منقوصة للحقيقة وهي عملياً تنطبق على الكثير من مجالات الحياة، فمثلاً عندما رفع البعض من «إعلاميي المصادفة الفيسبوكية» سيفهم ليهاجموا قناة إخبارية عربية مستقلة وصولاً لتخوين بعض من كوادرها، بدوا وكأنهم يحاولون تغطية إخفاق السياسة الإعلامية المحلية بتعويم سلبيات الآخرين. كذلك الأمر فإن عملية الترويج تلك يجب أن تستند إلى تاريخ من النضال، لكن من الإجحاف بمكان أن نقارن طرفاً لم يمتلك إلا تاريخاً نضالياً، وطرفاً آخر امتلك التاريخ النضالي ممزوجاً بممارسة السلطة ففي الحالة الثانية فإن مساحة التفرد الشخصي بالقرارات تبقى متاحة، من ثم فإن مساحة إمكانية حدوث الأخطاء وربما الكوارث تبدو أوسع، وهو فعلياً ما تمثله تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي في سورية، فكيف يمكن النظر لها اليوم في ذكرى ثورة آذار؟
خفّ نوعاً ما زخم الاحتفال بثورة الثامن من آذار، يبدو هذا الأمر مبرّراً فأساساً لا وقت للاحتفال ونحن في خضم المعركة، كما أن بعض قيادات الحزب عليها أن تدرك أن احتفالات كهذه يجب أن تكون مركزية في مقرات الحزب، لكن في الوقت ذاته يبدو هذا الطرح فيه نوعٌ من التجني وبمعنى آخر: هاتوا لنا ما يثبت أن من انضموا للأحداث التي عصفت بسورية عشية يوم الثامن من آذار هم فقط البعثيون، وليس العديد من قطاعات الشعب، أما ما مارسه حزب البعث فلم يكن أكثر من دور الطليعة النخبوية التي قادت الثورة، بمعزل إن اتفقنا مع هذه الطليعة أم لا، عندها لن نطلب فقط من قطاعات طويلة من الشعب السوري عدم الاحتفال بالثورة، لكننا سنطلب من مجلس الشعب عدم إرسال رسالته السنوية لـ«الشعب السوري» يهنئه فيها.
ربما من الأخطاء الجسيمة التي يرتكبها الحزب الحاكم هي غياب الرؤية الشفافة التي تتعاطى مع الحدث التاريخي كحدث متكامل، هنا يحضرنا مثالين بسيطين:
اعتاد السوريون على الاحتفال بذكرى ثورة آذار، لكن يا ترى وقبل الثورة الرقمية ووصول المعلومة بكبسة زر، كم عدد الذين اطلعوا على الرواية الكاملة لما جرى، بدل ذلك تركت الساحة للروايات المضلّلة، كأن يقول البعض إنها لم تكن ثورة بل انقلاب لكن من قال إن الانقلاب عملياً لا يستند إلى ركائز مدنية؟
أو أن يقال إن ما جرى تثبيت لحزب البعث كأحد الأذرع السياسية في سورية، لكن من قال إن الحزب كان مجرد نكرة قبل هذه الثورة؟ لقد كان للحزب دور كبير في الحياة السياسية ويمتلك نواباً في البرلمان بل إن تاريخه في المجمل يعود إلى ما هو أبعد من تاريخ دول قائمة حتى اليوم، فأين نجح الحزب كسلطة حاكمة؟ وأين أخطأ؟
في السياق العام تبدو الشعارات دائماً حبراً على ورق، هي أشبه بالبيانات الانتخابية كلامٌ معسول لا أكثر، لكن الفرق أن هناك من يبيع الوهم، وهناك عملياً من يحاول تطبيق تلك الشعارات فيفشل، بكلا الحالتين لا تبدو المشكلة بالشعار بل بآليات السعي إلى تطبيقه وهذه الأمثلة ليست في سورية فحسب، فشعار الجمهورية الفرنسية مثلاً «حرية أخوة مساواة» علماً أن هذا البلد أخفق كثيراً بتحقيق مبدأ «الأخوة» إذ حتى اليوم لا يزال متطرفو اليمين مثلاً يشكلون كابوساً لدعاة الإنسانية.
أما في التجربة البعثية فالمنطق يقودنا للقول إنك اتفقت أم لم تتفق مع حزب البعث، أحببته أم لم تحبه عليك أن تكون موضوعياً إن كان في نقدك أو في تبجيلك، بتخوينك للآخر أو بإلقاء تهم التخشّب الفكري عليه.
إن المسافة بين مصداقية الشعار وبيع الأوهام تبدو بعيدةً عندما يحاول الإنسان، وليس عندما يرفع شعاراً ولا يلتزم به، فمثلاً الاشتراكية لم تفشل والمشكلة حكماً ليست بها، لكن بما تلى مراحل النزوح نحو الاقتصاد الاشتراكي وبمعنى آخر: تستند فكرة الاشتراكية إلى دور القطاع العام كنواة أساسية للحياتين الاقتصادية والتجارية والصناعية، فبقدر الحفاظ على القطاع العام كركيزة للفقراء بقدر ما تتعمق الاشتراكية، للأسف نحن فشلنا في القطاع العام لدرجة بات فيها مهدداً والأسباب واضحة أهمها الفساد والمحسوبيات، والأهم عدم وجود ليونة في اتخاذ القرارات اللازمة لمجاراة التحولات الاقتصادية العالمية، والحل هو بإعادة رونق هذا القطاع، بإصلاحه وليس بتصفيته أو بيع شركاته جملة ومفرقاً.
في سياق آخر سنتجاوز شعار الوحدة لأنه لا يستحق مجرد إضاعة الوقت بتفنيده وسط ما نعيشه من وضع عربي مذر لنصل ختاماً إلى شعار الحرية، هنا قد يبدو الشعار فضفاضاً ترى عن أي حرية نتحدث؟ فالحريات أنواع أهمها تلك التي لا تضع خطوطاً حمراء بل على العكس تحاول عبر تنمية شعور المواطنة أن تجعل المواطن هو من يضع تلك الخطوط الحمراء، والتجربة البعثية هنا بدأت بشكل ممتاز لكنها للأسف انحدرت كثيراً، القضية هنا ليست بما يجب أن يقال وما لا يقال، هذا تبسيط، القضية هنا مرتبطة بالنظرة العامة لأصحاب الرأي، دققوا بمسرحيات «دريد ونهاد» دققوا مثلاً بالحياة الثقافية السورية التي يعترف كثر من أبنائها وتحديداً خلال تولي نجاح العطار منصب وزير الثقافة بأنها كانت تعيش عصرها الذهبي، وتذكروا أننا في أيامنا هذه ما زال هناك من يمنع مسلسلاً من العرض لأنه رأى فيه ما لا يعجبه، أو يهمّش مثقفاً لأنه يرى أفكاره كمسبب لإصابة الأمة بالوهن! لنعرف أننا عملياً محكومون بما يمكننا تسميته «المزاجية الفكرية» لمن يظنون أن الثقافة لم تُهد لسواهم، هؤلاء لا يفرقون شيئاً عن الذين يظنون أن اللـه لم يهد سواهم كلاهما يكفرك، لكن ببساطة مهما حاولوا أن يجعلوك تكفر بوطنك، فإياك أن تكفر به فالوطن ليس أشخاصاً وتعلّم دائماً أنهم زائلون والفكرة باقية، لأن الفكرة بالنهاية هي كنتاج الثورات الحقيقية لا تموت، ومن لا يجد في ثورة الثامن من آذار أفكاراً لا تموت ويختصرها بتنظير المنظرين وتخوين المخونين، فالمشكلة تبدو في تفكيره وليس بالفكرة وبمعنى أصح: من منكم بلا خطيئة فليرجم تلك الثورة بحجر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن