من دفتر الوطن

الزمن الجميل

| زياد حيدر

في أغنيته يقول العملاق الرقيق وديع الصافي «يا مين يرَجِّعني صغير، وياخد مالك يا دني»، فما من ثروة تعوض الشباب، وما من سر يعيد الفتوة المتلاشية، مع تقدم الأيام.
لم يكتشف العلماء مفتاح العودة بالزمن للوراء، وأقول لم يكتشفوا فأنا مؤمن بالعلم حتى حدود أقصى الخيال البشري، وهذا يعني مما يعنيه كل خرافات المؤلفين عن اختراعات تذهب بك إلى المستقبل وتعود بك من الماضي، وتحول كل حياتنا الواقعية إلى بُعد من أبعاد الكون الخفية.
لكن حتى ذلك الوقت، لا نقوى على زيارة الماضي، بسوى ذكرياتنا، ولا نقدر على النفاذ إلى المستقبل سوى بخيالاتنا.
الذكريات، بالنسبة لنا هي خليط روائح، أصوات، ومشاهد، تصل حدود تذكر ارتسام بسمة بطرف شفاه، أو تقلص غمزة خد، وصولاً لتجسد مشاهد كاملة.
أما الروائح فهي الوعاء الذي يمتلأ به كل شيء آخر، من عطر ورد النرجس الصغير في ودياننا، لزهر لوز البساتين مبشرا بمجيء الربيع، لأبخرة التربة في يوم ممطر بعد صيف جاف.
شوّش التقدم التكنولوجي على الأصوات والرؤى، بتحويلها لحقيقة، يمكن تقديمها وترجيعها وتثبيتها، تكبيرها وتصغيرها، وتدقيق أصغر تفاصيلها.
لذا تتربع الروائح المحبوسة في صندوق الذكريات والحنين، متفوقة حتى اللحظة، ومعها تلك التفاصيل التي لم تلتقطها الكاميرات، فبقيت بذاكرة المتلصصين، والرومانسيين الذين يفضلون ذكريات يمكن لَيُّ وقائعها، وتغييرها قليلا، بما يجعلها أجمل.
وهذا قمة ما تعنيه ربما كلمة «الزمن الجميل».
في وسائل التواصل، وفي البيت، وبين الأصدقاء، وحين زيارة منزل الأسرة، تطالعك صور، ومشاهد، وقصص قصيرة هي من تلك الزمن، الذي يتنهد أحد بعده، بشكل مؤكد، ليقول: إنه كان زمناً جميلاً.
لا يتوقف أحد للسؤال، ما الذي كان جميلاً؟ علماً أن الجواب ربما يحير كل الحاضرين.
هل كان ضوء الكاز الذي درسنا عليه نصف طفولتنا، والذي حين تطورت آفاق المستوردين، ومن خلفهم المشرعون الحكوميون استعضنا به بلُكس الغاز، ذي القميص القماشي الهش؟
هل هو الحنين لرومانسية الأضواء البدائية بينما كانت بيوت النافذين منارة من مولدات خاصة، أو من سرقة خطوط التقنين المختلفة؟
الحنين للوقوف في طابور للحصول على كيس أرز، أو علبتي محارم، تخزنان لحين مجيء ضيوف مهمين؟
الحنين للموز، وندرته، مما كان يستدعي تهريبه، علماً أن أحداً من عامة الناس لم يكن يقوى على شرائه، ولا في الأحلام.
الحنين للناس البسيطة.. من قال إن الناس كانت بسيطة؟ هذه من بدعات الخيال، أيضاً، وهو ينبَّش عن مقوم للحنين المخادع، الذي ليس سوى شوق للشباب، ونكران للحاضر.
الزمن الجميل، هو زمن لا أذكره، إلا لأن أصدقائي وأقربائي كانوا حينها أكثر، ولأن المستقبل كان غامضاً، زاخراً بالطموحات والآمال.
وفيما يتعلق بالأشخاص، فقد ذهب كثر منهم، فطمرهم الزمن خلف ستائر الموت، والهجرة، وتفاصيل بؤس الحياة التي لا تكف عن التوالد.
يمكن قول الكثير عن الماضي، ويمكن قول الكثير عن الحاضر، الذي نعيشه وبعضنا يقول إنه بالكاد يعيشه.
نحتال عليه فنعود لصورة ضوء كاز، أو مشهد نساء على تنور، وتلك الصنعة كانت عذاباً بحد ذاتها لكل امرأة عرفتها.
نبتدع براءة، لوقت لم يكن فيه البشر سوى ذات البشر، الآن كما سابقاً.
لذلك، عسى المستقبل الغامض أن يكون أفضل من الحاضر.. الجميل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن