ثقافة وفن

العمامة والحب

| إسماعيل مروة

هل يمنع الالتزام الديني من الحب؟
هل من تعارض بين أن تكون معمماً وأن تكون محباً؟
إن العرف الاجتماعي، لا الديني العقيدي، هو الذي يصنع الحواجز، لا الضوابط، فالضوابط العقيدية لا تمنع من أن تكون محباً، بل أزعم أن الالتزام العقيدي يدفع الإنسان دفعاً إلى أن يكون متفانياً في الحب، وفي الذوبان في الآخر، لأن الله محبة، قبل كل شيء وبعده ولأن حياة الأشخاص لا تصل إلى كل الناس، فإن السؤال عندما يطرح كما طرحته يلقى استهجاناً، وقد يتأخر المجيب عنه في الإجابة! وربما وجدنا مجيباً يتردد ويبدأ باستحضار نص ديني ليؤكد أن الحب شيء منكر، بل يذهب أبعد من ذلك إلى أن التعامل مع الآخر المختلف جنساً أو عقيدة فيه شيء من المخالفة التي يأنفها! ولكم أن تتخيلوا أن أحدهم، وهم كثر، وفي هذا الزمن المتقدم ألبسه الزمن لباساً ليس له، ويعبر بالكلام الواضح، بأنه لا يمكن أن يتحدث إلى امرأة مجالسة أو حواراً أو مهاتفة، وإن احتاج إلى هذا التواصل فلا بد من وسيط، وهو في أحسن الأحوال فكراً ومنطقاً لا يمكن أن تحدثه إلا من وراء حجب! فأين هذا الذي يسطرون أمام اسمه ألقاباً رنانة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قالت له المرأة: اجعل لنا يوماً في الحديث!
كيف يمكن لهذا الإنسان أن يشرح حكماً شخصياً للمرأة؟
والأهم: هل أثق بمثل هذا الشخص إن تواصل مع المرأة بعيداً عن الرؤية؟
المهم: إن التحجر والضعف وراء مثل هذا، لذا يصدم أحدنا عندما يسمع أن شيخاً أو مطراناً أحب أو وقع في الحب، مع أن الأجدى ألا أثق بأحدهم إن لم يكن محباً حقيقياً، والحب نازعة إنسانية لا شهوانية كما يصورها الكثيرون، والحب السامي في حال طهرية من الصعب أن تكون طاهراً إن لم تحظَ بها!
قلت لصديق جليل: ادع لي أن أكون معتدلاً، وألا أكون محباً، فقال لي بتحبب واضح وبصدق: ادع الله أن يبتليك بالحب، لأنك إن توقفت عن الحب فأنت ميت وإن كنت تسير على قدميك، الحب يا صديقي شعلة حياة الفرد والمجتمع، وطبيعة إن خسرتها فستغدو غير طبيعي وحاقداً ولا قيمة لك!
لم أقل هذا الرأي لأحد إلا واستغرب، ووصف قائله بصاحب النفس الخضراء التي تهوى الحياة الدنيا!
لذا أعود لأقول: إن المجتمع هو الذي يضع الحواجز، ولو أن العقيدة بضوابطها هي التي تحكمت لكانت الأمور بألف خير، ومن يشأ يقرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بالحب والحب وحده، وليتابع في الحب فإنه سيجد عشرات الأمثلة من الحب الإنساني الذي قيده المجتمع، ولنا الأمثلة المشهورة بدل أن نبحث في سير أشخاص عاديين صدروا أنفسهم، فالإمام الشافعي إن عدنا إلى شعره فإننا سنجد المحب الحقيقي للناس والمجتمع، وطلاوة شعره تؤكد بأنه لولا قيود المجتمع على إمام جليل لكان شاعراً من النسق الأعلى.
والمثال الأكثر وضوحاً وظهوراً الشاعر والإمام الشريف الرضي الذي قدم أهم خدمة للعربية وحكمتها في جمعه لنهج البلاغة للإمام علي كرم الله وجهه، والشريف الرضي من النقباء الأشراف وهو من المحبين المتفردين، وعندما نازعته نفسه للحب الأصيل في روحه، كان أمام المجتمع بين أمرين، فاختار الوسط حتى لا يخسر مكانته وهو من هو، وجنح إلى المواربة في التعبير عن حبه، وإذا ما تركنا جمعه لنهج البلاغة جانباً لجلالته والغاية منه، فإننا سنجد أن شعر الشريف كله من سياسي ودعوي ضاع في صفحات ديوان ضخم، يرجع إليه الباحثون والمعنيون، لكن ما وصل إلينا وما نردده من ديوانه هو الحب والحب وحده سواء كان مباشراً أم موارباً:
يا ظبية البان ترعى في خمائله
ليهنك اليوم أن القلب مرعاك
الماء عندك مبذول لشاربه
وليس يرويك إلا مدمعي الباكي
عندي رسائل حب لست أكتمها
لولا الرقيب لقد بلغتها فاك
يحاول محبو الشريف الرضي من الذين قيدتهم القيود الاجتماعية أن يفسروا هذا الشعر، وأن يؤلوه، ظناً منهم أنهم يحافظون على مكانته في الإمامة، وكأن الحب يصنع شرخاً، أو يثلم من مكانته، والشريف نفسه في شعره أشار إلى القيد الاجتماعي، ويعلم الجميع أن الشريف سما بالحب، مهما كانت سمة الحب لديهم.
والشعراء الفقهاء وقفوا مواقف مماثلة، ولعل أصدق مثال عاصرته وحاورته الشيخ المعمم الدكتور مصطفى جمال الدين، عندما التقيته في دمشق كان طبيعياً، وعندما حاورته في الحب المبثوث في ديوانه ضحك، وقال: إن لم أكن محباً فلا قيمة لمشيختي وعمامتي، وديواني مليء بالغزل:
تسألني حلوتي أنا من أكون
إن أنت أبعدت عن حينا
وتحدث يومها عن الحب الذي عاشه بكل تفاصيله، وعن الشعر الذي قاله في الحب، وقد لاحظت أن ذاك الشعر في الحب هو الذي يحفظه دون سواه.. وحين عدت إلى ديوانه الضخم في مجلد طبعه في حياته وفي مجلدين طُبعا بعد الرحيل، فإنني وجدت شعراً مهماً، وشعر مناسبات وشعر قضايا عقيدية، ورثاء لآل البيت ومن يلوذ بهم، لكن هذه الأشعار تحتاج إلى قراءة وتمعن ومعرفة عقيدية وبقي شعره في الحب علامة روحه الوثابة إلى الحياة، وقد دافع عن الحب وشعر الحب طويلاً في كتاباته وأحاديثه.
وحين نقرأ من قبل ومن بعد شعر التصوف فإننا سنجد محبين غارقين في الحب حتى النهاية، وأشعارهم في التصوف ليست أكثر من حديث عن صلة الوصل بين المحبوب الأسمى والمحب العابد المتصوف، ويتجسد الحب بالإنسان الصورة الأعلى من الحب.
قلبي يحدثني بأنك متلفي
روحي فداك عرفت أم لم تعرف
وذاك يقول:
وما شربت لذيذ الماء من ظمأ
إلا لمحت خيالاً منك في الكاس
ولا جلست إلى قوم أحاديثهم
إلا وكنت حديثي بين جلاّسي
إنه الحب من خلال الصلة التي تجسد قمة أنواع الحب، كما تحدث في ذلك الإمام الشيخ ابن حزم، فهل بعد هذا من حب؟ أم إننا نريد أن ندع لهم الحب ولنا الكره والمشاحنة؟ فتمسكوا بعمامة الحب المطلق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن