اقتصاد

السياسة النقدية في سورية تفعّل أدواتها النائمة

| علي محمود محمد

تحذو السياسة النقدية في سورية نحو استخدام أدواتها التي لطالما بقيت مغيبةً عن المشهد النقدي خلال السنوات السابقة، ولا نقصد هنا سنوات الأزمة فحسب، بل يمكن أن نجزم بأنها كانت غائبة لعقود منصرمة، فطرح فكرة شهادات الإيداع بالليرة السورية وبالدولار خلال العام 2018 كان باكورة تغيير نمطية التفكير النقدي في سورية، كما أن القرارات المتتالية الخاصة بسعر الفائدة خرجت هي الأخرى عن النمط التقليدي السابق.
الملاحظ من القرارات الأخيرة الخاصة بسعر الفائدة على الودائع التي أصدرها مصرف سورية المركزي خلال سبعة الأشهر الماضية؛ أن المصرف المركزي بدأ إعادة رسم أهدافه التي وضعها للفترة الراهنة باستخدام أدواته (ومنها سعر الفائدة) بشكل مغاير عما كان يستخدم سابقاً، فلم يكن لسعر الفائدة أي تأثير يُذكر في تاريخ السياسة النقدية في سورية، إذ بقت مثبتةً عند 7.5 بالمئة على الودائع لأجل منذ العام 1981 لغاية العام 2003، ومن ثم فإن جُلّ التغييرات في سعر الفائدة بعد العام 2003 كانت تركز على تغيير هيكلية الودائع حيناً أو تشجع على الادخار بشكل خجول حيناً آخر، إلا أن ذلك لم يحقق «بذاته» الأهداف الموضوعة، بل لعبت عدة عوامل بتحقيقه ومنها دخول المصارف الخاصة إلى سورية، ونهج الانفتاح الاقتصادي الذي اتبع آنذاك، والمقصود هنا زيادة حجم الودائع مقارنة بالفترة السابقة للعام 2003.
وفي هذا الصدد، فإن ما يعترض راسمي السياسة النقدية هو مشكلة التوفيق بين تشجيع الادخار وتشجيع الإقراض، فرفع الفائدة على الودائع قد يسبب رفع سعر الفائدة على القروض والتسهيلات الائتمانية «عرفاً»، والفيصل هنا هو التكلفة المرجحة لأموال كل مصرف التي تختلف من مصرف لآخر بحسب تركيبة ودائعه (جارية، توفير، آجلة) وبحسب قدم المصرف وتفرعه.
بالعودة إلى القرارات الأخيرة لسعر الفائدة، فقد أصدر مصرف سورية المركزي القرار رقم 91 في آب من العام الماضي 2018 الذي خفض (بالمجمل) من تكلفة الفوائد على الودائع بالليرة السورية لتصبح 7 بالمئة على الودائع لأجل شهر و10 بالمئة لشهادات الاستثمار، وهذا القرار كان معدلاً للقرار السابق الخاص بالفوائد على الودائع الذي منح معدل فائدة لكل وديعة بحسب أجل استحقاقها (شهر، 3 أشهر، 6 أشهر، عام، أكثر من عام) والذي ترك معدل الفائدة للوديعة لأجل أكثر من عام لغاية 20 بالمئة.
من شأن هذا القرار تخفيض تكلفة الودائع على المصارف العاملة، كل منها بحسب حاجتها للسيولة، وبحسب آجال الودائع دون تحديد وتقييد من المصرف المركزي بحيث يترك الأمر للمنافسة بين المصارف، ما يعني أن هدف هذا القرار هو تخفيض جزئي للفوائد الدائنة وانعكاس ذلك المباشر على الفوائد المدينة على القروض والتسهيلات الائتمانية بالليرة السورية ما يعني تخفيضاً في سعر المنتج النهائي.
ومؤخراً أصدر المصرف المركزي القرار رقم 7 في آذار الحالي 2019 الذي رفع سعر الفائدة على ودائع القطع الأجنبي ليصبح +1 بالمئة Libor، +2% Libor وذلك بهدف جذب المدخرات بالقطع الأجنبي للمصارف العاملة في القطر، وهذا يعني أن السلطة النقدية تهدف إلى زيادة جذب المدخرات بالقطع الأجنبي من خلال رفع سعر الفائدة عليها تشجيعاً لذلك على أن يُصار لاحقاً إلى الاكتتاب بها بشهادات إيداع بالدولار المزمع طرحها قريباً بسعر فائدة يفوق 4.88 بالمئة أي يفوق أعلى سعر فائدة قد تمنحه المصارف للمودعين لديها، وهذا قد يشكل دافعاً للمصارف للتنافس بينها لجذب هذه الودائع بالقطع الأجنبي وإعادة توظيفها في قناة توظيف جديدة في سورية وهي شهادات الإيداع بالدولار لدى المصرف المركزي مقابل عائد مقبول.
من هذين القرارين يمكن أن نستشف بأن السلطة النقدية تعمل على تفعيل أداتيها: سعر الفائدة والسوق المفتوحة (شهادات الإيداع)، بحيث تخفض تكلفة الاقتراض بالليرة السورية من جهة، وترفع تكلفة الودائع بالقطع الأجنبي لجذبها من السوق المحلية والخارجية من جهة أخرى، فالهدف هو تأمين موارد متزايدة من القطع الأجنبي للمصرف المركزي لتلبية متطلباته ويؤمن في الوقت نفسه قناة توظيف جيدة للمصارف، والجديد في الأمر هو أن تفعيل هذه الأدوات قد يسهم بزيادة تحكم المصرف المركزي شيئاً فشيئاً بالأمور النقدية، تمهيداً للعودة إلى التركيز على الهدف النهائي لأي سلطة نقدية في العالم والمتمثل باستقرار المستوى العام للأسعار وتحسين القوة الشرائية للعملة الوطنية، وهذا بطبيعة الحال يتطلب فترة زمنية لتعكس نتائجه على أرض الواقع.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن