ثقافة وفن

الجميل والجليل والبطولي في الشعر الأندلسي بعصر الدولة الأموية … دراسة شاقة تنزلق في التعميم وضم رخيص الشعر إلى ثمينه وغثه إلى سمينه

| سارة سلامة

صدر عن وزارة الثقافة- الهيئة العامة للكتاب، دراسة بعنوان (الجميل والجليل والبطولي في الشعر الأندلسي بعصر الدولة الأموية، للدكتور قاسم القحطاني). ويتناول الكتاب دراسة الشعر الأندلسي دراسة ميدانها علم الجمال. ودراسة الشعر الأندلسي بمجملة دراسة شاقة، تنزلق في منزلق التعميم، وضم رخيص الشعر إلى ثمينه، وغثه إلى سمينه، ولهذا كان لا بد من الاهتمام بمرحلة محددة منه، وبما هو جوهري في تلك المرحلة، من غير الوقوع في ما هو عرضي أو ثانوي، وهذا ما دعا المؤلف إلى حصر مرحلة الدراسة في الدولة الأموية الممتدة بين عامي 138- 422ه، واتخاذ المقولات الجمالية (الجميل والجليل والبطولي)، وهي من القيم الأساسية التي تمثل أحجار الزاوية في البناء الجمالي، ميداناً للدراسة والتطبيق، إذ كان من المتوقع أن هذا الشعر في هذه المرحلة من الزمن قد تمكن، خلال أكثر من مئتين وثمانين عاماً، من تأصيل مفهوماته الجمالية وقيمه الفنية.
ويطمح هذا الكتاب إلى خدمة تراثنا العربي، من خلال العمل على استنباط القيم الجمالية في الشعر الأندلسي في عصر الدولة الأموية، بعد أن وجد المؤلف في شعر هذه المرحلة مادة غنية جديرة بالدراسة، وكانت الغاية من وراء ذلك الإسهام في تعميق فهم الأدب في تلك المرحلة، والإسهام في سد ثغرة في الدراسات الأندلسية، واستكمال ما فات الباحثين الوقوف عليه، والخروج بدراسة تطبيقية أكاديمية ترفد المكتبة العربية، وتضاف إلى دراسات سابقة في الشعر العربي القديم (الجاهلي والإسلامي والعباسي)، والحديث والمعاصر.
الإهداء (إلى مدينتي وإلى جسرها الذي ما زال معلقاً في قلوب أبنائها.. تحية.. ومحبة.. ووفاء).

الجميل في الشعر الأندلسي
الجميل من القيم الجمالية الأساسية الإيجابية، هو كل ما يمنحنا الإحساس بالمتعة الجمالية، والإحساس بالجمال طبع أصيل من طبائع البشر في كل زمان ومكان، وهو نمط من أنماط إدراك الوجود وممارسته الإنسانية، وتحقيق الذات، ومتعتها المادية والنفسية. ومفهوم الجميل قديم في تاريخ الفكر الإنساني، وتحدث عنه كثير من الفلاسفة وعلماء الجمال قديماً وحديثاً.
بدأ الحديث عن مفهوم الجميل بالظهور من خلال كلام الفلاسفة اليونانيين القدماء، ومنهم الثلاثي المعروف (سقراط) و(أفلاطون) و(أرسطو)، الذين يعدون لدى معظم الفلاسفة وعلماء الجمال من أبرز الفلاسفة الذين أرسوا الدعامات الأولى لعلم الجمال.
اتصف الجميل عند (سقراط) بالحسية، والتنوع، والشمول، والنسبية، والمنفعة. كما طابق بين الجميل والمفيد، ومع أن مطابقته هذه فيها بذرة عقلانية، «لكنها تعجز عن تفسير طبيعة الجميل الشاملة وإن كانت تؤكد الممارسة الاجتماعية في تقويم الجميل، إذ كيف نفسر جمال تمثال (فينوس) وفقاً لهذه الرؤية القائمة على المنفعة؟».
أما (أفلاطون) تلميذ (سقراط) فقد ناقش مفهوم الجميل في محاوراته في إطار مناقشته المسائل الكبرى في الفلسفة، وليس من أجل الجمال لذاته، وفرّق بين نوعين من الجمال: الجمال الحسيّ، والجمال الروحي، ورأى أن الجمال الروحي هو الأساس وهو الجمال المطلق، أما الجمال الحسيّ فهو الجمال الناقص الزائف، وانطلق في ذلك من نظريته في (المثل العليا)، فقد عدّ الأشياء المحسوسة جميعها متغيرة ومتحولة، وبناء على هذا فإن هذه الأشياء تظهر إلى الوجود، إذ أن الوجود الحقيقي متمثل فقط في الوجود الروحيّ، وبالتحديد في (المثل العليا) أو عالم المثل الأزلية، عالم الأفكار.

الجليل في الشعر الأندلسي
الجليل من القيم الأساسية الإيجابية، وينشأ الشعور به من إدراك ظواهر غير عادية تقطع سلسلة تواتر الأحداث المألوفة في الحياة اليومية، كالعاصفة الثلجية والنصر العسكري والثورة العارمة وامتداد المحيط الزاخر المتلاطم الأمواج، إن الجليل لا يفرح فرحاً عادياً بل يثير عاطفة التقدير العالي الممزوج بشيء من القلق، إنه يولد لذة ممتزجة بالألم ومتعة محفوفة بدهشة العقل الروحية، وشعوراً بالحرية والأمن من خلال الإحساس بالضعف.
ومفهوم الجليل قديم قدم مفهوم الجميل نفسه، وتحدث عنه كثير من الفلاسفة وعلماء الجمال قديماً وحديثاً، وهذا استعراض سريع لمفهوم الجليل عند القدماء والغربيين والعرب المسلمين.
رأى (كانط)، وهو من أشهر الفلاسفة الذين ناقشوا العلاقة بين الجميل والجليل، أن تلك الدهشة التي تحدث عنها (بيرك) ما هي إلا الخطوة الأولى في تجربة الجليل، التي سرعان ما يتبعها شعور بالسموّ العقليّ والأخلاقي، وإلى هذا أشار حين قال: «الصخور الضخمة المدلاة، وتلك السحب المكدسة في السماء والراكضة بين ومض البرق وقعقعة الرعد، والبراكين بكل عنفها، والأعاصير بجنونها المهول، أو المحيط ساعة هيجانه، أو صراع شلال عظيم، هي تعرض قدراتنا المحدودة مقارنة بما لها من بأس وقوة. إلا أنها تغدو أكثر هولاً وأكثر إثارة حين نكون نحن في أمان، هذه المشاهد جميعاً ندعوها بالجلال، لأنها تستثير قوى روحنا فترفعها إلى حيث لم تكن في اللحظات العادية المألوفة، وتكشف فينا عن ملكة للمقاومة من نوع خاص تعطينا الشجاعة كيما نقف في وجه قوى الطبيعة المخيفة».

البطولي في الشعر الأندلسي
تميزت البطولة في العصر الأموي وفي شعره بأنها ذات قيم داخلية بين أصول متعددة منها تراثية يقودها عصر ما قبل الإسلام، ومنها إسلامية متأثرة بالقرآن والثقافة الإسلامية، ومنها متأثرة بالحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
لقد كان البطل الأموي رجل حدث ورجل فكر، ينتقل مع الأحداث، ويعبر عن طموح الأمة، ويرسم أمل أبنائها بما يتفق مع قيمهم، ويحقق أهدافهم. وبرزت في العصر العباسي صور كثيرة للأبطال في الحروب بين العرب والروم، التي ظلت قائمة على قدم وساق في هذا العصر، وقد تغنى الشعراء ببطولات العباسيين، وتجلى مفهوم البطولي في شعرهم من خلال صورة البطل الشجاع الذي يتمتع بالقوة والعزة والرفعة والكرم وكرم النسب والعفة وحماية العرض والوفاء بالعهد.

تجليات البطولي في الشعر الأندلسي في عصر الدولة الأموية
كان لطبيعة الحياة السياسية في الأندلس أثرها الواضح في إبراز قيمة البطولي في الحياة، فأعطى الشعر الأندلسي في عصر الدولة الأموية مساحة واسعة للبطولة في نصوصه، حتى لا يمكن لنا أن نقرأ هذا الشعر من غير الاهتمام بهذا الجانب، وكان الشعراء يصدرون عن روح الشعب في تمجيد أمرائه وأبطاله في المعارك الدامية الطاحنة، وكم من أمير أمويّ أبلى بلاءً حسناً في عصر سيادة قرطبة ضد أعداء بلاده.
وممن عرف بين الأندلسيين بالبطولة في هذه المرحلة الوزير هاشم بن عبد العزيز (ت273ه)، والقائد سعيد بن جودي (ت284ه)، والخليفة عبد الرحمن الناصر (ت350ه)، والقائد غالب الناصري (ت371ه)، وجعفر بن علي بن حمدون الأندلسي (ت373ه)، والحاجب المنصور محمد ابن أبي عامر(ت392ه)، وغيرهم.
وتجلى مفهوم البطولي في الأندلسي من خلال صورة البطل الذي يتمتع بالشجاعة والقوة والعزم والرفعة والكرم وكرم النسب والدفاع عن الأرض والدين، وسنقف في هذا الفصل عند ثلاث شخصيات أندلسية في ثلاثة عهود، هي الإمارة والخلافة والحجابة، وسنعرض عن عهد الفتنة، إذ لم نجد في هذا العهد من يتجلى فيه مفهوم البطولة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن