ثقافة وفن

حنا مينه.. الروائي السعيد بشقائه

| د. رحيم هادي الشمخي

بين أحضان مدينة اللاذقية ولد الروائي السوري حنا مينه في التاسع من آذار من عام 1924، وفي قرية من قراها هي «السويدية» القريبة من لواء اسكندرون المغتصب من الأتراك الذين أجبروه على النزوح مع عائلته إلى اللاذقية، حيث استقروا في حي (المستنقع) الذي تحوّلت حياته في ذلك الحي إلى رواية عدها الناقد الأدبي المصري الأشهر الدكتور صلاح فضل بأنها الأعظم من بين السير الذاتية على الإطلاق والأوفر صدقاً والأغنى فكراً.

بعد دخوله المدرسة في سن السابعة وحصوله على شهادة التعليم الابتدائي لم يكمل تعليمه لشظف أحواله المعيشية والفقر المدقع الذي كان يعيشه مع عائلته، لذلك عمل منذ مطلع شبابه (موزعاً) لجريدة (صوت الشعب) ودخل المعترك السياسي وعمل مع رفاقه ضد الاحتلال الفرنسي، وكتب المراسلات والعرائض للحكومة قبل أن ينتقل للعمل بحاراً وحمّالاً في مرفأ اللاذقية، ثم حلاقاً.
ثم في عام 1948 انتقل حنا مينه إلى بيروت بحثاً عن عمل لم يطل مكثه فيه، فعاد إلى دمشق ليبدأ عمله الأدبي فيها في جريدة (الإنشاء) الدمشقية محرراً متمرناً براتب ضئيل لا يتجاوز المئة ليرة سورية، ثم ليشغل بعدها منصب رئيس التحرير، وبدأ بمزاولة كتابة المسلسلات الإذاعية لينتقل بعدها إلى وزارة الثقافة.
كان البحر مصدر إلهامه الأدبي الأول إذ تناول في رواياته الحياة في البحر وحياة البحّارة، وكان يجوب فيه متلمساً أعماق الحياة التي يصل من خلالها إلى جوهر الإنسان معبراً عما تجيش به نفسه شاعراً بمسؤولية الكلمة التي يعنيه منها الصدق عبر رحلته الطويلة في تلك الأعماق.
وكان لتنقله بين بلدان العالم أثر في استكمال رحلته في أعماق الحياة، إذ سافر إلى بعض الدول الأوروبية وإلى الصين، ثم عاد إلى سورية، والتقى كلاً من حسيب كيالي ومصطفى الحلاج فأسسوا رابطة كتاب السوريين عام 1951، وشارك أيضاً في تأسيس اتحاد الكتاب العرب عام 1959 وحصل على جائزة الكاتب العربي عام 2005م.
له أكثر من 40 رواية وقصة لعل من آخرها (عاهرة ونصف مجنون)، ولكن من أهمها رواية (الياطر)، و(حمامة زرقاء في السحب)، و(حديث في بيتاخو)، وكانت روايته الأولى (المصابيح الزرق)، وتتابعت بعدها رواياته التي تجاوزت الـ(30) رواية، تحوّل الكثير منها إلى مسلسلات تلفزيونية، وحاز أكثرها على الجوائز الأدبية وأهمها.
جائزة المجلس الأعلى للثقافة والآداب والعلوم عن رواية (الشراع والعاصفة) عام 1968.
جائزة العويس عن عطائه الروائي عام 1991م.
جائزة المجلس الثقافي لجنوب إيطاليا عن رواية (الشراع والعاصفة) عام 1993 لوصفها أفضل رواية مترجمة إلى الإيطالية.
عمل حنا مينه على كتابة رواية سورية بامتياز وصنع من ملامح واقعه الخاص رواية ترتبط بخصوصية واقعه وملامح تراثه الحي وأناسه البسطاء، وقد كان يفيد من كل ما تقع عليه عينه، أو يصافح سمعه، ولقد سعى لكتابة شكل متميز للرواية السورية وللقصة السورية بشكل يصل بين عناصرها البنائية وأبعادها الدلالية، فأبطاله من صميم واقعه، فروايته (المصابيح الزرق) عام 1954، تصور حياة البسطاء في مدينة اللاذقية أيام الحرب العالمية الثانية، وفيها ينتقل من تصوير أثر الحرب في الناس إلى تصوير الحياة بكاملها وكيف لعبت الحرب دوراً كبيراً دفعت فيه الناس إلى الكفاح في سبيل العيش، وقد لاقت الرواية اهتماماً كبيراً وحولها التلفزيون السوري إلى مسلسل تلفزيوني كما ترجمت إلى اللغتين الروسية والصينية وحولت إلى مسلسلات تلفزيونية بالاسم نفسه.
وكانت (الشراع والعاصفة) التي صدرت عام 2006 عن دار الآداب في بيروت، وصنفت من ضمن أفضل 105 روايات عربية، وقد ترجمت إلى اللغة الروسية.
أما روايته (حكاية بحار) الصادرة عام 1991م، فهي جزء من ثلاثية مكونة من روايات أخرى للكاتب وهي: حكاية بحار، ورواية الدقل ورواية المرفأ البعيد.
وقد تناولت روايته (الثلج يأتي من النافذة) عام 1991م حياة المسيحيين في البيئات الشعبية اللبنانية.
أما رواياته «بقايا صور» فهي جزء من سيرته الذاتية المكونة من ثلاثة أجزاء 1984م، المستنقع عام 1973م، القطاف عام 1986.
وكتب «حنا مينه» مؤلفاً عن «ناظم حكمت» عنوانه «السجن، المرأة، الحياة» قال فيه: التعبير في شعر ناظم حكمت يعبر عن التوق للمستقبل، بقوة الكشف والصمود في الحاضر، وغايته هي الدعوة لعالم جديد مؤسس على نظرية جديدة، وصياغة ذلك من ألسنة الحرائق الشعرية في النفس، حيث يتحد في كل موحد، وعي الذات وماخارجها، وتنصهر التجربة الشعرية، في نار الأحاسيس، قارب ناظم حكمت، شق بحوراً تجيش بأنواع التجارب على مدى عمره كإنسان، ومدى وجوده كوريث للمعرفة الإنسانية، ووثق نماذج من شعره:
أنا آت من الشرق..
أبشر
بثورة الشرق
فهيا افتح ذراعيك
واحتضني..
ايه
عانقني
يا من تغفل الحنين إلى الوطن
واستطاع الروائي الخالد حنا مينه، أن يوثق في كتابه عن الشاعر «ناظم حكمت» الوصفية في شاعريته فاستطاع أن ينقل ما كتبه «ناظم حكمت» في وصفه لجمال الطبيعة في الوطن العربي:
أجمل البحار ذاك الذي لم نذهب إليه بعد
وأجمل الأطفال من لم يكبر بعد
وأجمل الأيام هي تلك التي في انتظارنا
وأجمل القصائد هي تلك التي لم أكتبها لك بعد
وأجمل ما أريد قوله ما لم أقله بعد
إن الحديث عن الروائي، حنا مينه، طويل لأنه الأديب الذي أجج مشاعر الأدباء الشباب في تطوير واقع الرواية العربية وحولها من نمط معيشي بطيء الاستمرارية إلى واقع متطور يعيش آلام العصر الحديث.
يقول حنا مينه:
(أعتذر للجميع، أقرباء وأصدقاء ورفقاء، إذا طلبت منهم أن يدعوا نعشي محمولاً من بيتي إلى عربة الموت، على أكتاف أربعة أشخاص مأجورين من دائرة دفن الموتى، وبعد إحالة التراب عليّ في أي قبر متاح، ينفض الجميع أيديهم، ويعودون إلى بيوتهم، فقد انتهى الحفل، وأغلقت الدائرة، لا حزن، لا بكاء، لا لباس أسود، لا للتعزيات بأي شكل، ومن أي نوع في البيت وخارجه، ثم وهذا الأهم، وأشدد لا حفلة تأبين، فالذي سيقال بعد موتي سمعته في حياتي، وهذا التأبين، وكما تجري العادات، مذكرة، مسيئة إلي، استقيت بكم جميعاً أن تربطوا منها).
إن ذكرى الروائي (حنا مينه) يخلد وجود كل الأدباء والشعراء والمؤرخين في سورية بصورة خاصة وفي الوطن العربي بصورة عامة، فهو باق في أذهان كل المثقفين ورجال الكلمة المقاتلة، رغم بؤسه وشقائه وحياته التي عاشها في هذا الزمن العربي الرديء، وهو يعاني من آلام الأمة العربية التي عانت وما زالت تعاني من الاحتلالات الأميركية والصهيونية.
علينا أن نقف وقفه إجلال لهذا الأديب العبقري العربي السوري وهو يعلم الأدباء العرب أبجدية الحرف السومري.
توفي حنا مينه عام 2018م عن عمر ناهز (94) عاماً بعد معاناة طويلة مع المرض، ورغم ذلك كان يقول: لقد كنت سعيداً جداً في حياتي، فمنذ أن أبصرت عيناي النور وأنا منذور للشقاء، وفي قلب الشقاء، ولكني حاربت الشقاء وانتصرت عليه، وهذه نعمة من نعم الله، ومكافأة من السماء وإني لمن الشاكرين.
أخيراً، لقد كانت مسيرة حنا مينه الأدبية تجربة أدبية متكاملة صانت حياته بكل تفاصيلها المتناثرة في رواياته وقصصه، ولذلك فقد كان كل ما كتبه من قصص وروايات مذاق مرحلة ومذاق عصر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن