قضايا وآراء

«تارانت» يشعل فتيل فتنة كبرى

| فارس الجيرودي

ببندقيته التي زينها بتواريخ لمعارك قديمة بين إمبراطوريات مسلمة ومسيحية، مثبتاً كاميرا على خوذته كما في الألعاب القتالية الالكترونية، دخل الإرهابي الاسترالي برينتون تارانت (28 عاماً) إلى مسجدين في نيوزلندا، ليسجل أول نقل مباشر لمجزرة طائفية على مواقع التواصل الاجتماعي.
فكيف يمكن لأستراليٍ من الطبقة العاملة البيضاء، كما وصف نفسه، لم يحصل على أي تعليم عالٍ، أن يكون ملماً بكل تلك الوقائع التاريخية القديمة وبعضها من العصور الوسطى، كاسم الملك الذي أوقف تقدم الأمويين الأندلسيين في فرنسا، وبالقائد النمساوي الذي نقد معاهدةً مع الأتراك وقتل أسراهم في مدينة فاهاغوستا شمال قبرص، وبإسكندر بيرغ القائد الألباني الذي تمرد على العثمانيين؟
يخطئ من يظن أن فعلة تارانت حادثة فردية، فظاهرة «الإسلاموفوبيا» التي بزغت في الغرب خلال العقدين الماضيين، نتجت عن تراكمات ثقافية وشحن فكري، ظهرت أوضح مؤشراته مع كتاب «صراع الحضارات» لمؤلفه «صموئيل هنتغتون»، والذي تنبأ فيه بصراعٍ بين ما سماه بالحضارتين الإسلامية والمسيحية، وهو ما تم استكماله بكتاب الفرنسي «رونو كامو» بعنوان «الاستبدال الكبير» الصادر عام 2011 الذي روج فيه لنظرية حلول أعدادٍ متعاظمة من المهاجرين غير الأوروبيين، بفعل «تدفقهم» إلى أوروبا، ومعدلات ولاداتهم المرتفع، وما يراه تواطؤاً معهم من السلطات المحلية، في مكان السكان الأصليين البيض، وهي نظرية لا تستند إلى أي أساس علمي، وتدحضها كل الإحصائيات والأرقام عن أعداد المهاجرين ونسب تزايدهم، لكنها تجد لها مكاناً مميزاً في عقول جمهور وقادة اليمين المتطرف في أوروبا، ولهذا أسبابه الاقتصادية والاجتماعية.
إذ يبدو أننا إزاء وضع شبيه بما حدث إثر «الكساد الكبير» الذي شهدته أوروبا بدءاً من عام 1929، ومروراً بعقد الثلاثينيات وبداية عقد الأربعينيات، وهو أكبر وأشهر الأزمات الاقتصادية في القرن العشرين، حيث تم تحميل مسؤولية الانهيار الاقتصادي، للأقليات اليهودية في أوروبا، وساهم ذلك في صعود الفاشية والنازية، وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية، ومحرقة «الهولوكوست» التي طالت كل الأقليات من أصل غير أوروبي وليس فقط اليهود.
على نحو مشابه ومع انخفاض مستوى حياة الطبقات العاملة والوسطى في الدول الغربية، نتيجة السياسات النيوليبرالية المتوحشة، وازدياد جشع الطبقات المحتكرة للسلطة والثروة هناك، ومع غياب الحلول للأزمات الاجتماعية المستعصية، يتم تحميل المسؤولية للمهاجرين المسلمين عن كل الأزمات البنيوية التي تعانيها دول الغرب ومجتمعاته.
لذلك علينا ألا نستغرب لو ظهرت تنظيمات غربية إرهابية تدعي المسيحية وتمارس القتل الطائفي على غرار تنظيمي القاعدة وداعش، فمن كان يسمع بمصطلح الإرهاب الإسلامي طوال عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات؟ قبل أن تقرر الولايات المتحدة أن توعز لوكلائها الإقليميين من مشيخات خليجية بمواجهة الثورة الإيرانية عبر شحن عقول الناس بمصطلحات «الروافض والنواصب والمجوس»، وبنبش صراعات قديمةٍ من كتب التاريخ الصفراء أكل الدهر عليها وشرب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن