قضايا وآراء

«الصراع مستمر»

| عبد المنعم علي عيسى

منذ فترة غير وجيزة برزت رؤيتان مختلفتان في صفحات ومواقع معارضة بعضها يعمل في مجال التوثيق لمسار الأزمة السورية، أولاهما، وهذي مواقع شامية، تشير إلى أن الشرارة الأولى كانت قد انطلقت من الاعتصام الذي جرى أمام السفارة الليبية في حي أبو رمانة الدمشقي يوم الثلاثاء 15 آذار 2011، على حين أن الثانية تقول إنها انطلقت من اعتصام المسجد العمري بدرعا يوم الجمعة 18 آذار 2011، الحيثية هنا مهمة لجهة النسيج الذي خرجت منه الشرارة.
أياً يكن فقد ضم ما بين التاريخين، أي انطلاق الشرارة واليوم، أحداثاً جساماً تركت في كل محطة من محطاتها بصمة في الجسد السوري، أو معلماً لا بد وأنه سينغرس في ذات السوريين العميقة، وفي ملامح دولة المستقبل التي سيبنونها هم أولاً وقبل أي أحد آخر، فهم أثبتوا جدارتهم في الحياة أولاً ثم في ميادين السياسة والقتال ثانياً، وسطروا في ذلك ملاحم ليست بأقل، إن لم تكن تفوق، تلك التي ورثوها عن أجدادهم الأبعدون والأقربون.
اليوم وعشية الذكرى الثامنة نقول إن ما تكشف عن البدايات كان كثيراً، وما بقي خافياً بالتأكيد هو كثير أيضاً، إلا أن الأول كاف للجزم بأننا كنا في مواجهة حرب كبرى، ولم نكن في مواجهة ثورة، والفرق بين الحالين كبير، فالحرب تقوم بالإلزام والقسر، على حين الثورة ما من ملزم لقيامها سوى نضج ظروفها وضغوط موجباتها التي غالباً ما تكون بفعل وجود عوامل معيقه أمام مسيرة الحياة، وفي هذا السياق من المفيد القول، طالما أن الحديث هو بمعايير وسنن التطور، أن الحكم على أي نظام بالمقياس التاريخي لا يتم من حيث مقاربته لقيم مطلقة مثل الحق والعدالة والحريات… إلخ، وإنما تتم من حيث إنه قدم، أم لم يقدم، منهجاً معرفياً كان قادراً في ظرفي الزمان والمكان اللذان وجد فيهما، على النهوض بمجتمعه الذي يقوده صعوداً على سلم التطور الاجتماعي.
ما تكشف حتى اليوم كاف للقول إننا كنا في مواجهة حرب هي الأشرس مما تعرضت له في العصر الحديث دولة بحجم وقدرات بلد صغير كسورية، وقد بات من المؤكد أن رسوماتها الأولى اختطت في مطلع الألفية الراهنة على حين العقد الذي قضته لاكتمال ملامحها كان لزوم استكمال شروطها من دون أن يعني ذلك إلغاء لدور حطب الداخل الذي كان كافياً لإيقاد النار، والصورة السابقة ساعدت في رسمها ريش عديدة بدءاً من مذكرات وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون التي أشارت فيها إلى وجود مخطط أميركي لرسم خريطة شرق أوسط جديدة تتحدد تخومها فحسب عبر خطوط الدم، على حين أجاب حكيم عصر القوه الأميركي هنري كيسنجر في مقابلته مع مجلة «ديلي سكيب» أيار الماضي عن سؤال: لماذا سورية؟ مروراً بكم كبير من المعلومات التي قدمها السفير اللبناني الأسبق في واشنطن عبد اللـه حبيب في كتاب كانت قد نشرت أجزاء منه على الشبكة العنكبوتية مؤخراً وفيها إشارة إلى أن قراراً بوجوب حدوث الزلزال السوري كان قد اتخذ في لقاء النورماندي 6 حزيران 2004 الذي جمع الرئيس الأميركي جورج بوش الابن إلى نظيره الفرنسي جاك شيراك، ثم وصولاً إلى تصريحات وزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم في تشرين الأول الماضي التي كشفت الكثير، إلا أن أوجع ما فيها هو أنها جاءت بلغة أهل البداوة الذين كانوا قد خرجوا إلى الصيد في ربوع أرض الحضارات بل وأعرق الحضارات، ثم اكتشفوا أن «الصيدة فلتت»، فأخذوا يعيثون فساداً في تلك الربوع، قبل أن تحل ثالثة الأثافي عبر ما تسرب من كتاب قيل إنه سيصدر قريباً لبرهان غليون الذي شغل منصب أول رئيس لـ«المجلس الوطني السوري» وهو بعنوان «عطب الذات» ولربما كان في العنوان سراً أبعد مما يوحي إليه، فالعامل الذاتي الذي ركز عليه في عطب المحاولة هو نفسه ما يفسر جزءاً مما آلت إليه الأزمة في البلاد، فرسم السياسة في بلد كسورية لا يتم إلا عبر عاملين اثنين شديدي التلاصق هما الداخلي وعلاقته بالخارج في معادلة هي الأعقد في المنطقة حيث للأخير فعل سحر الرجحان الدائم على الأول، وبهذا المقياس فإن كتاب «الأسد والصراع على الشرق الأوسط» للراحل باتريك سيل يحيل صفحات «عطب الذات» الـ528 إلى التقاعد قبل أن تدخل الخدمة، وفي توسعة المشهد يمكن القول: إن المنطقة بدءاً من المغرب الأقصى إلى الباكستان تقع على خط زلزالي متفجر يكاد يكون واحداً، وهي لا تزال مفتوحة، وستظل كذلك، باباً للصراعات طالما أن قوانين التوازن فيها لم تفرض نفسها عليها بعد بشكل يؤدي إلى إرساء عوامل الاستقرار فيها، مما شكل، وسيظل يشكل، ثغرات نفوذه للخارج في الولوج إلى دواخلها، والشاهد هو أن مطلع الألفية الراهنة كان قد شهد حالة انزياح كبرى في مركز الثقل العربي الضامن للنظام الإقليمي المتمركز تاريخياً في محور دمشق القاهرة الرياض، وبالتناوب مع بغداد أحياناً، نحو محور الخليج العربي قبل أن تحل الكارثة ويحط رحاله مطلع العقد الحالي في الدوحة وأبو ظبي، هذا الانزياح الذي حل بفعل انكفائية القاهرة ومحاولات تهميش دور دمشق ما بعد الخروج من لبنان العام 2005، اللذان حدثا ما بعد سقوط بغداد 2003، كان قد أدى إلى أن مناخات السياسة ومؤثراتها في المنطقة راحت تصنعها دول هامشية كل أدواتها هي كيس المال وفضائيات تلعب دور «الكمبريصة» التي تتقن فن الهدم ولا تجيد فنون البناء، وربما كانت هذه المنطقة اليوم أحوج ما تكون، بعد بحار الدم التي سالت فيها، إلى «ويستفاليا» إقليمية شبيهة بتلك التي وقعتها الدول الأوروبية في العام 1648م والتي أنهت حروب ثلاثين عاماً بين دول القارة وفيها اعترفت هذي الأخيرة بسيادة الدول على أراضيها وعدم جواز التدخل في شؤونها الداخلية.
اليوم وعشية الذكرى الثامنة للحرب السورية يمكن القول: إن مخاطر الحرب العسكرية التقليدية قد انتفت، إلا أننا أمام مخاطر قد تفوق الأولى منها، وهي قد تصل إلى حدود خسارة أجزاء من الجغرافيا، فها هي الخارجية الأميركية تسقِط وللمرة الأولى في تاريخها صفة الاحتلال عن مرتفعات الجولان السورية، وكذا عن قطاع غزة وأجزاء من الضفة الغربية، ومن المؤكد أن هذه الخطوة لا تعدو أن تكون لمسة الـ«touh» الأخيرة لـ«صفقة القرن» التي كان قد أعلن مهندسها غاريد كوشنر عن تأجيلها في مؤتمر وارسو منتصف شهر شباط الماضي بانتظار ما ستفضي إليه الانتخابات الإسرائيلية شهر نيسان المقبل، والصورة ستتضح أكثر في غضون الأيام العشرة المقبلة عندما سيزور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو واشنطن وهي الزيارة التي ستحدد ملامحها موقف الأخيرة تجاه هذا الأخير فيما إذا كان رهانها سيقع عليه كحصان سبق قادر على الفوز في معركة الانتخابات وكذا في تلبس «صفقة القرن» المعدلة، فيما تشير تسريبات لمسؤولين إسرائيليين منضوين في قائمة «كحول لفان» إلى أن الرئيس الأميركي سيعمد إلى إعطائه دفعاً قد يصل إلى حدود الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان.
الخطر جاثم في جنوب البلاد وكذا هو فاعل في الشمال والشرق منها، وما يقلق أكثر هو ضبابية الموقف الروسي في كلتا الحالتين، قد تتفهم موسكو دوافع التصريحات الإسرائيلية الأخيرة حول الجولان، وكذا حول سعي حزب اللـه المزعوم إلى تشكيل خلايا مقاومة فيه عبر الحشر الانتخابي الذي يجد نتنياهو نفسه أمامه، إلا أن الأمر بالتأكيد يخرج عن هذا الإطار على الرغم من أن في الأمر ما يدعو إليه، سأل الكاتب باتريك سيل الرئيس الراحل حافظ الأسد عن العبارة التي يريد أن يختتم بها كتابه الذي أرخ فيه لسيرته فأجاب: «اكتب الصراع مستمر».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن