ثقافة وفن

رمزا العطاء الأم المانحة للوطن والحياة.. والمعلم الراسم درب هذه الحياة … أيقونتان للقدر والغد والحب

| إسماعيل مروة

-1-

يحار المرء أيهما يقدم للحديث! أيهما أكثر قدرة على الفعل والتغيير والدهشة!
أهو ذلك الذي يتعلق به المرء لينهله ويأخذ من غذائه وحليبه؟ ذلك الذي يرقبه الطفل بعد الفطام من وراء حجاب ليتشهى التقامه لعله يشعر أن في الكون من يلتصق به ويحبه ويمده بالروح، فتنثال القطرات على حواف الفم بيضاء أو بغير لون ومهما امتد به العمر يتشهَّ ذلك الطفل أن يلقم صدرها لعله يعود إلى الطهر الذي لا يعرفه سوى عندها، وإلى الحب الطافح الذي لا يصدر إلا عنها، وهي ترقبه فوق رأسه، ترى تقلب عينيه، انفتاحهما وانغلاقهما والخير يهمي في جوفه مطراً ثلجاً حليباً يمنحه إكسير الحياة، في الوقت الذي تبخل الحياة عليه برشفة من ماء أو غذاء.
إنها تلك التي تحفظ ابنها من أن يكون متسولاً في طرقات ممتدة وطويلة، وتضمه إليها لتجعل صدرها وطناً، تمسح عينيه المتعبتين، وحين يمتد ضمها تنظر في عينيه، النور ينبعث منهما عند تقلبهما، والتجاعيد والتغضنات تختفي، لتبقى علامة طفولته مرتسمة على وجهه الذي جاء مرهقاً متعباً شاكياً.
ناداها قبل التكوين، قبل عشرة آلاف سنة
وها هي تدلف إليه، تستخرجه من رحمها كل ساعة
تعطيه شهقة الروح كل ثانية
تسكنه الروح، وتخاف عليه أن يتوه في الطريق، فتذكره دوماً بالروح التي يسكنها، وبالمسامات التي تفتحت، ويده الطفولية تسرح ما بين رقبة وصدر.. وجسده الصغير أو الكبير يبحث في كل مكان عنها فيتمسك بثوبها، ويسقط على أصابع قدميها، تحاول أن تبعدها خوفاً عليه، فتتسلل أصابعه بين الأصابع، ويستنشق عبير الأمومة التي زرعها الإله فيها وفيها وحدها.. يدرك أن لكل طفل أمومته وألوهته، لكنه منذ خرج من رحمها، وهو يستلذ الخروج كل لحظة، وهي لا تجد حرجاً في أن يسكن وليدها كل التفاصيل قبل أن يغادر وتغادر، ويصبح الغياب علامة!
في كل لحظة يلوب بحثاً عنها، يتربع في روحها، الساعات تمرّ مسرعة، ولا يرغب في مغادرتها، ولا ترغب في تركه وحيداً، وحين يتطاول به العمر، وتدركه الشيخوخة، يأتيه صوتها من الغياب لتعرف تفاصيله، كيف تنام يا وليدي؟
من يمنحك يا ولدي؟ من يعيد إليك الحياة؟ من ومن ومن؟
يطمئنها ويقلقها: لا أحد سواك يا أم.. أنت وحدك يا خلد الروح..
تبسم لوليدها، ويقتلها القلق عليه، هي استخرجته من رحمها، وتريده لها وحدها، لكنها تخشى عليه العذاب والتعب، لكن الناموس حكم بالغياب!
في كل ثانية تنوس فوق رأسه، وغرتها تتدلى فوق رأسه، وأصابعها تعابث وجهه، وشفتها تختلس قبلة مطبوعة على جبينه، في كل يوم وساعة ولحظة هي تسكنه، وهو ينزرع فيها، وتعاد حكاية الأمومة فيها، وحكاية الولادة والموت، وحبل المشيمة والمشيئة.
وحين يأتي يومها يتلهى الناس بزينة وحلوى وهدية.
حددوا لها يوماً، ويومها كان قبل عشرة آلاف سنة ويزيد!
يومها كان يوم التكوين الأول وبدء الخلق العظيم، ولولا وجودها لكان الخلق غير مكتمل، فاضت دموعها، صرخاتها بآلام المخاض والولادة، غطت الدنيا بشلالاتها من حب وفرح، ولم تدر ما فعلت، وتقف مندهشة حائرة في تفسير العبير الذي يضوع من ثنيات القداسة فيها، وتسأل عن الحال الذي هي فيه، ولا تفسير لعطائها، وكل مسام من مسام أمومتها التي تنزرع في الوجه والعين والشفتين وفي كل مكان.. وحين يدرك الوليد أهمية البنوة والأمومة يتلاشى وهو يغب من ماء أمومتها المقدس، لا يرتوي ولا يتوقف، وهي تعجب وتسأل عن تفسير ما لا يفسر..!
حب الانزراع، خوف الافتقاد هما من يقف وراء انزراع الوليد، وربما كان خشية من دوران الأيام ما بين ربيع وربيع، ما بين عيد وعيد يريد أن ينزرع نرجساً، غاردينيا، ياسميناً حيث جوهر النبع الذي لا لون ولا ريح، حيث الجوهر الذي لا يدركه أي نوع من تحول، إنه لا يتحول من حال إلى حال، وتبقى ابتسامة الأم تعرّش فوق جبين الوليد وهي ترقب انتهاء احتوائه لما جادت به، وتطمئن في روحها أنه انزرع وأنها أعطت، ولكنها بأمومتها تنسى أنها أعطت، وتتدلى كشجرة مشمش فوق رأس الوليد، تعصر له كل ما في المشمش من خير، وهو بعدد الحبات التي يراها يؤدي صلوات الشكر، وكلما تعطرت ثمرة كان يقول لأمه في الحضور والغياب، كل عام وأنت أم، كل عام وأنت أمي، كل عام وأنت أيقونتي التي أرقبها من سماء عليا، تعطيني الحياة لتغادر، ولتقول: الحياة أنا يا ولدي فانهل من نبعي، إياك أن ترتوي حتى لا يفيض نبع حبي لمن لا يستحق..! أنا أمك.. أنا وطنك..

-2-
والمعرفة حب
والعلم عطاء لا يتوقف
نبع ونبع.. حب ومنح لا يعرف التوقف
يتأفف يوماً، يجد جحوداً ساعة، يقرر ألا يعطي! وعندما يكون هو بأصالته وجماله، وجوهر تكوينه ينسى ما حصل، ويعود إلى لوثة العلم، ويبدأ رحلة جديدة طويلة لا تنتهي..
كان آدم المعلم
كان نوح المعلم.. المرشد إلى الحياة..
وكان سقراط سيد المعرفة.. لم يتوقف عن المتح، وهم لم يتوقفوا عن المنح! أخذوا معرفته وعاشوا بها، وتركوه وحيداً فرداً يعاني، أعطاهم وحرموه، وحين فاضت المياه، وغمر طوفان المعرفة الكون غرقوا جميعاً وبقيت هامة سقراط
بقيت قمته وقيمته
والطوفان جرف ما جمعوا وأعدوا
ذهب الزبد الذي عاشوا به، وبقي الجوهر الذي دعي المعلم، وها نحن نرقب مائدة معرفته المنصوبة أمام الكون..
وكان موسى المعلم، الذي أرشدنا للسقاية، فكان الحب إشارة إلى تعلم الخير..
وكان يسوع المعلم.. أرشدنا إلى الحب، وحين أدرك أننا لن نكون محبين أو متحابين.. دفع قربان الخطايا، ورحل مردداً أن الله محبة.. ونحن نقول ولا نحب.. ونكرر الحكاية مع روحه التي تظل حياتنا..
وكان محمد المعلم.. حتى تحب لأخيك ما تحبه لنفسك.. فهل يحب أحدنا لذاته المرض والموت؟ وهل نرجو لأخينا ما نرجوه لأنفسنا؟
ودّعنا بخطبة، وما وعينا، ونحن نردد القول ونشرحه، ونحاول أن ندلل على ما تفتقده نفوسنا..!
أمرنا بالجود من دون أن تعرف اليسرى، لكن الكون عرف بما أردنا أن يعرف من دون أن نجود..!
فردد عظمة تعليمه: اللهم قد بلغت.. وحين ينتهي الفصل نعود إلى سابق لم يكن من أقواله، حتى يأتي موعد آخر لشرح خطبته، فنستعيد اللحية، ونستعير الدمع، فالخشوع ضرورة!
وكان ابن حزم معلماً، وكان الفارابي المعلم الثاني في تاريخ الإنسانية، جاؤوا بمن يريد أن ينهل.. جلسوا إليه، علموه، أطعموه، أشبعوه، أعطوه من المال ما يكفيه، حتى لا ينشغل بغير العلم..!
واليوم وضعنا المعلم على قارعة تسوّل
فلا هو يتعلم ولا هو يعلم
شغلناه بغير العلم، فضاع العلم الذي يجب أن يكون
لم يعد قادراً على استرجاع أنفاسه..
وبدل أن يعطي كما المعلم أرسطو.. أحنى رأسه!
تقدم على استحياء وقد أفقدناه اسمه ورمزيته..!
صار يأخذ بدل أن يعطي..
وصار يسأل بدل أن يغضي..
والطالب صار.. لا أدري ما صار
وحين تصحو الشمس يبقى المعلم شهيداً للعلم والمعرفة، الذي يضيء لنا ما يصعب أن ينار بسوى سناه الجميل..
ونتحلق حوله
نغني له
قم للمعلم وفه التبجيلا..!
ليس بالتبجيل وحده يحيا المعلم، بل يريد أن يكون نبعاً وعطاء.
وصدق طوقان إذ قال:
إن المعلم لا يعيش طويلا!
لا يعيش عمراً، لكن يبقى رمزاً وقداسة لزمن مضى، ولزمن نعيش، ولزمن لم يخلق..
وكل من كتب حرفاً أو تنفس علماً يقول لأستاذه:
كل عام وأنت منارة..

-3-
أيقونتان للحب والحياة هما
تطابق اليومان اليوم
عطاء سماء وديمومة
عطاء أرض راسخة
الأم التي تجود وتعطي وتستخرج من رحمها
والمعلم الذي يهدي إلى معرفة الذات والكون
خط واصل ما بين سماء وأرض، سمو وطبيعة
هما قطبا الحياة..
راجموها ضاعوا وبقيت أمومتها
جاحدوها تبخروا وعاشت دلالة جوهرها
نحن علامتها، والحياة كلها طرف من أصابع قدميها
والساخرون من سقراط زالوا بكل ما ملكوا بسببه وعلمه
وبقي سقراط قريباً من الأولمب يدعو للمعرفة
أم وتماه.. معلم وعطاء
وحياة تستمر في الأرحام ومنها

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن