ثقافة وفن

«ألف نون» تحتفي ببديعها عبر معرض حمل الجوهر والمحبة … بديع جحجاح لـ«الوطن»: غايتي أن ينفتح السوري على كل المعطيات التي تشكل وعيه ليعبر إلى ضفة السلام

| سارة سلامة- ت: طارق السعدوني

من الدرويش والدوران بدأ الفنان بديع جحجاح رحلته في البحث عن الجوهر، جوهر المحبة وجوهر الإنسان. وجاءت الحرب لتجعل جحجاح يسعى إلى الربط بين المفهومات العديدة للخط والفكر واللوحة واللون حتى تحول الحرف عنده بل تحولت النقطة إلى مدلول فكري يسعى إلى ترسيخه. من الدوران إلى التشظي إلى الثبات والرسوخ، جاء معرضه هذا الجوهر والمحبة تتويجاً لرحلته مع التصوف والإنسان. حيث زاد في معرضه اليوم على الحرف القرآني حرفاً ليسوع سعياً إلى المحبة التامة.
ضم المعرض نحو 25 لوحة بتقنية الزيتي ووجه من خلاله رسالة يقول فيها (إلى الإنسان السوري أينما وجد.. أودع رموزي المجبولة بكيمياء الحب والحق لديك لعلها تكون ترياقاً يشفي أرواحنا ويساهم في بناء جسر الوعي الإنساني القادم من أجل وطن يتوق للحق والخير والسلام).

ذاكرة الحرب
نرى الفنان بديع جحجاح مستقبلاً ومرحباً كعادته زواره مرتدياً وشاحه الأزرق الذي يحمل مزيج فهم له علاقة باللون الأخضر والأزرق ويعبر له عن الطبيعة والسماء الزرقاء ولون الشجر الأخضر هذا المزيج يسقطه على الإنسان مثل الماء والهواء. يقول في حديث خصنا به أن المعرض يحمل عنوانين رئيسيين ربما يكمل أحدهما الآخر وهما: «الجوهر والمحبة وجهان لعملة واحدة عبر تقص دائم لسطوح الأشياء وشكلها الظاهري. وإذا ما أردنا معرفة جوهرها فذلك يحتاج إلى بحث عميق ومكثف لنفهم أين نحن. وحتى نعرف يجب على دائرتنا المعرفية ألا تكون وحيدة الاتجاه بل دائرة مكتملة. هذا نحن وهذه سورية البيئة المشرقية وهذا عالمنا السوري المملوء بالحضارات والرموز والثقافات والتحولات وخاصة الحرب كصدمة تجعلنا نرتبط بمجموعة كبيرة من الأسئلة المطروحة ومنها من أنت؟ أنت من توضح كيف تجاوب وهذا الجواب له علاقة بذاكرتك وخبراتك وقدرتك على استقبال الصدمة، هل كسرتك أم إنها أعادت تكوينك من جديد؟ وهذا ما يجب توضيحه إننا كسوريين يجب ألا تكسرنا الحرب لأننا ننتمي إلى ثقافة منفتحة وغير محدودة».
ويبين جحجاح أن المعرض يجاوب ويستكمل جملة الرموز التي عملها بالحرب من «الدوران» ومشروع «أفلا» الذي صدّر منها رمز التكوين ورمز ولادة «أفلا »45 و«أربعية أفلا»: «أما اليوم فنحن نحتفل بتصدير رمز المحبة الذي يتحدث عن المسيحية لأنني أهتم جداً بخلق جسور بين كل المفردات الإنسانية التي تعيش بدائرتي السورية فالمسلم يعرف المسيحي والمسيحي يعرف المسلم وهما مع بعضهما يعرفان التصوف. وبرأيي هذه الدائرة تشكل البعد الارتقائي لرحلة الإنسان من باء البداية إلى نون الوعي».
ويحدثنا جحجاح أكثر عن المغزى من المعرض واللوحات والألوان والتضاد بين الأسود والأبيض وتناسق حرفي النون والباء قائلاً: «هناك جدل بين البعد التنويري لحياتنا وبين عالمنا الحسي السطحي. وحتى نكون على مستوى واع لهذه البذرة التي في الباء وعلى مستوى وعي النون وكي ندرك حواسنا والطاقة المحيطة والكونية وخبراتنا كيف نراكمها هي ثقافتنا كسوريين. وكيف يمكن أن نصدرها ونستخلص منها منظومة حب وحق لمجتمعات أخرى تتمازج بين بعضها».
من خلال اللوحة نرى أهمية الفكرة والرسالة وهذا ما يتميز به جحجاح ويحض الكثير من الفنانين السوريين على الاهتمام بطبيعة الرسالة والمادة المقدمة وعن ذلك يقول: «اللوحة السورية وما تحتويه من أشكال وألوان ورموز وقضايا كبحث خاص متعمق أمام فكرة العولمة كتيارات كبيرة وضخمة. وكيف نستطيع المحافظة على هويتنا السورية ونصدر لوحتنا ونسميها لوحة الرمز والمعنى والشكل لوحة المفردة الخاصة ولوحة التأليف الخاص حتى نستطيع أن نقول من خلال تكثيف الرمز بعوالم الآخر وتحويله من إشارة إلى رمز ذي معنى وذي قيمة، ولا يمكن أن يكون ذا معنى وذا قيمة إذا لم يؤثر في ذائقة الجمهور. وأرى أن اللوحة كي تؤثر يجب أن تعبر عن أفراحنا وأحزاننا وأوجاعنا ووعينا وجهلنا وذكائنا. فالبعد الجمالي والرمزي والهندسي والمعنوي وكل هذه الأشياء تشكل لوحتي وتمنحها مع الزمن القيمة والخصوصية. وتصبح اللوحة سورية وشرقية فيها كنز مختلف عن أي لوحة أخرى».
ويضيف جحجاح إننا: «اليوم نراكم وعي الحرف كي نشكل كلمة ونراكم وعي الكلمة لنشكل جملة وتتراكم الجملة لتشكل منظومة وعي وحكاية. هذه هي أعمالي ضمن الرموز المكثفة والوعي الذي تحتويه تشكل ذاكرة الحرب وشاهدة على ضفاف الانتصار القادم».
على الرغم من أن هذا المعرض حمل المسيحية كدين وفكر إنساني ولكن لم يغب نص القرآن الكريم عن معرض جحجاح ويقول: «أدواتي للفهم متاحة من القرآن إلى الإنجيل وعالمي الحضاري والإنساني. نحن لا نستطيع أن نمر مثل الغبرة التي تذهب بلا نفع إنما هناك غبرة تعجن بماء الحياة وتتحول إلى نص وجسد، وهذا الجسد نعطيه روحاً وهذه الروح هي الثقافة المنفتحة. وغايتي من المعرض أن يكون السوري منفتحاً على كل المعطيات التي تشكل وعيه المسيحي والإسلامي والصوفي والعلماني واللاتيني. نحن كل هؤلاء ولا أعفي أحداً من أي منهم مهما كان أصله طالما أن تصرفه ينبع من الإنسان، لأننا نؤرخ للحرب من خلال الرموز التي تحمل النبض الإنساني الواعي لتعيش لألف سنة قادمة».
ويوضح جحجاح معنى ودلالة رمز المحبة قائلاً: «هو يختزن صفوة معنى ثقافة عشناها وضمنها. وهي فلسفة ولكن عملية تفكيكها وإعادة نظمها بلغة فنية ملونة قريبة من القلب وقريبة من روحنا الشرقية. وهي اليوم تفكك هذا المقدس لمادة لها علاقة بالسلوك والتفاعل. بما فيها هذا الغموض الجميل والسرّ اللطيف هو سعي الإنسان إلى الكشف. كما صورت السيد المسيح بلوحة وحيدة وهي نوع من الاستحضار لروحه والتنوير الذي تركه من خلال تلامذته. فالأجساد تفنى ويبقى منها المعنى فإذا كان المعنى يصب في المزاج الإنساني والمفردة الإنسانية فإنه يملك جينة البقاء والأبدية».

الفن فكر وبحث
بينما يقول الفنان التشكيلي جمعة نزهان ابن دير الزور الذي نجدد اللقاء به مع كل معرض فني يحمل بصمة الفنان جحجاح وذلك إيماناً منه بتلك التجربة، عن ذلك: «يقدم لنا جحجاح في معرضه الرمز بحالته الظاهرية كمادة لكنه للمتأمل يحمل قدسية الكلمة وعمق المعنى. ويمثل هذا المعرض نتاج بحث طويل من خلال مشوار فني غني ومتنوع. أمضاه بين التصميم والتشكيل والتأمل والفلسفة. وقضاها قارئاً وقريباً من الإنسان المتدين وعلاقته بالله والمحيط من خلال الدرويش وفكرة الدوران وخلاصته مشروع الجوهر والتكوين ورباعية أفلا».
ويبين نزهان أن هذه المشاريع تعتمد في فلسفتها على الحواس وطاقة الحرف عندما يتحدان ليشكلا المعنى والغاية ويقول إن: «إعمال العقل تميز الإنسان عن باقي الكائنات. أما المحبة فهي الرمز الجديد الذي يقدمه جحجاح في معرضه الذي يمثل السيد المسيح وحوارية المائدة الدائرية الكونية. ونلاحظ في الرمز وجود زهرة المعرفة والسمكة وكلمات مستوحاة من الكتب المقدسة، المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة. هذا هو بديع المصمم والمفكر والمتأمل».
أما بديع الفنان المصور فيوضح نزهان: «تظهر براعته في تحويل هذه الصياغات إلى لوحات فنية مجردة من معناها الفلسفي والهندسي بتكوينات مختلفة غنية باللون والعناصر بدءاً من التجريد والتعبيرية وانتهاء بالواقعية المبسطة والكلاسيكية التي ظهرت في لوحة وجه السيد المسيح وكأنها لوحة هاربة من عصر النهضة.
هذه البراعة بالتصوير والصياغات المختلفة التي تدور حول فكرة فلسفية تعكس مستوى فنياً رفيعاً وذكياً. ويقدم لنا فناً سورياً يحمل خصوصية المحلية المشرقية وصولاً إلى أيقونة حديثة خاصة به يكاد يكون عالمياً بمحتواه الإنساني الشامل».
ويختتم نزهان حديثه بالقول إن: «المعرض يرسل رسالة لكل فنان يستخف بالفن ويسطحه. فالفن فكر وبحث وصياغة وليس عبثاً وعناوين فارغة كما نراها في بعض المعارض الفنية».

رسائل روحانية
ومن جهته يقول الفنان التشكيلي موفق مخول صاحب التجربة الفنية العميقة إن: «المعرض يحمل رسائل روحانية واجتماعية وإنسانية يصف بها طريقة ترتبط بالروح من خلال الخط العربي الذي يحتوي على موسيقا جميلة لها علاقة بتاريخنا وثقافتنا الجمالية وحاول توظيف الخط مع اللون. هذه تجربة بديع الإنسانية بالفن التشكيلي. وجميل أن نخاطب الروح في هذه الظروف الصعبة التي فقدنا بها الروحانيات وأشياء لها علاقة بالماضي والدين، والعلمانية المرتبطة بالدين والروحانيات وهو لا يتعامل مع اللوحة كلوحة إنما يتعامل معها بطريقة أخرى توصل رسائل عديدة إلينا، هو استطاع توظيف كل هذه الأشياء جمالياً وإنسانياً وروحانياً».
ويضيء مخول على جانب مهم وهو التقيد بمجتمعنا وعدم الخروج عنه حيث يقول: «يجب ألا نخرج من مجتمعاتنا بل نتأثر جمالياً وبصرياً لنحمل رسائل عدة في المجتمع لها علاقة بالتشاركية في المجتمع من خلال التلون والدين والعلمانية والإيمان والفن».

بناء منظومة سلام
على حين يطلعنا الفنان أكسم طلاع بتجربته الممتدة إلى سنوات على تجربة جحجاح قائلاً: «هذه التجربة تتلخص بمقولة جحجاح الشخصية التي تمثل فكرة معينة وتنتمي روحياً إلى ذهنه ولديه رغبة أن يعممها على المستوى الذهني والمادي والنفسي وهي الرغبة والتوق لبناء منظومة سلام وود وتواصل ومحبة، هذه رسالته التي بدأت مع شتلة الحبق وقبلها النبضة إلى فكرة ألف نون الجامعة إلى بذرة تكون نبتة».
أما عن الجانب المادي فيقول طلاع: «تقع هذه المشغولات ضمن حيزها التسويقي الإعلاني القائم على مشغول فني. وهذا ميدان جحجاح وعمله وبحثه ولكننا نرى اليوم دائرة جديدة في التكوين الرابع له الأول نبضة والثاني أفلا والثالث الدرويش والرابع هو هذه الدائرة المجسدة في المقولة (المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة). ولأنه تربطه علاقة كبيرة بالصوفية نجد أن هذه الأدبيات هي ميدان وأرض خصبة للكتاب والفنانين، لكن تبقى شخصية بحتة لأن هذا التجلي وهذه التصورات هي رهن صاحبها مهما حاول تصديرها للمجتمع فلن تكون إلا دعوات إيمانية وبالتالي هو أمر يعود إليه حسب أدواته وقدرته على إقناع هؤلاء، هو يحاول أن يقدم بطاقة مادية وعملاً نصبياً صغيراً ولوحة صغيرة وجملته الأدبية تقول إنه ميال وشغوف لهذا الجانب الوجداني العرفاني».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن