ثقافة وفن

هل يمكن للحرب أن تكون أخلاقية وعادلة؟…القواعد الأخلاقية ليست كافية لضمان القرارات الصحيحة للمنخرطين في الحرب

 إسماعيل مروة : 

الحرب تدور رحاها على أرضنا اليوم، توسعت دائرتها من محلية إلى إقليمية إلى دولية، وكانت من قبل في أرض العراق وما تزال، وكانت في أفغانستان وما تزال، وكانت في لبنان ولم تخمد بشكل نهائي، وكانت في ليبيا، وكانت في اليمن، وها هي الحرب تنتقل من بلد إلى آخر، ونسمع كل يوم عشرات التصريحات والأقوال التي تحاول أن تجعل الحرب من وجهة نظر المتحدث ضد آخر، هذا الآخر هو السيئ والمعتدي، وبالتالي فإن حرب المتحدث تجاه الآخر عادلة وحق، والآخر لا يعرف الحق مطلقاً! فهل الحرب عادلة؟ ومتى يمكن للحرب أن تكون عادلة؟ وهل تعرف الحرب الأخلاق؟ أسئلة محيرة تأتي إلى الأذهان، ونحن نرى الحرب تحصد كل يوم عشرات الضحايا، وربما مئات الضحايا، ونراها تمنع من التعليم وتسهم في إخراج جيل من التعليم والرقي في سلم الحياة، ونراها تشرد الكثيرين، وتذلّ العزيز، وتجعل القادر متسولاً، وتجعل الحرة عاهرة تبيع جسدها على قارعة الطريق والقهر… أمام هذا المشهد أو هذه المشاهد هل يمكن للحرب أن تكون عادلة؟ وهل تحمل الحرب أي سمة أخلاقية؟! وإذا تحققت العدالة لشريحة فهل هذا يكفي؟ وإن رأى أحدهم أن حربه أخلاقية وعادلة فهل نسلم له؟

الحرب والعقيدة
كما هي العادة تـأتينا الإجابات من الخارج، فنحن لا نملك إجابات، ولا نملك رؤى، ولا نملك المعرفة الكافية لصنع أسئلة وطرحها على أنفسنا! وإن طرح أحدهم سؤالاً أو رأياً فإنما يطرحه على الآخر ويستثني رأيه، يطرحه على الفهم المقابل بينما فهمه هو الصواب! والغريب أن القارئ والمتابع يستفيق فجأة على كم من الإجابات والأسئلة المطروحة في الخارج منذ زمن بعيد، لكن الحرب الدائرة كانت وراء وصولها إلينا، ولو وصلت في أوانها فهل ستكون مجدية «الأخلاقيات والحرب- هل يمكن أن تكون الحرب عادلة في القرن الحادي والعشرين» عنوان وسؤال طرحهما ديفيد فيشر في كتابه الصادر بالعربية عام 2014 بترجمة الأستاذ الدكتور عماد عواد، ترجم الكتاب ونشر في أتون الحرب المستعرة في بلداننا العربية والمرشحة بالانتقال إلى بلدان أخرى وأخرى، وربما تعمّ هذه الحروب منطقتنا العربية برمتها، ونحن ما نزال بعيدين عن طرح أي سؤال، أو الحصول على أي إجابة!
قرأت الكتاب على مراحل، وفي كل مرحلة كنت أجد فيه ما يستحق التوقف الطويل، فالمؤلف يكتب بنفسه في مقدمته «نظرة جديدة على تقليد قديم» ما يغني القارئ عن البحث «على الرغم من خلفيتي بوصفي فيلسوفاً أخلاقياً كنت أيضاً- بصفتي الوظيفية كمسؤول رفيع المستوى بوزارة الدفاع البريطانية- أتعامل مع الحرب، والتي أسعى إلى طرح إجابات عنها في هذا الكتاب بالنسبة إلى مجرد موضوعات أكاديمية فقط ولكنها أيضاً قضايا تمس الحياة الواقعية التي اشتبكت معها خلال تأديتي لمهام وظيفتي».
لم نكن بحاجة للبحث عن فكره وانتمائه وجذوره وخلفيات تأليفه للكتاب، ولم يتبرأ الرجل من جانبيه الفلسفي الأخلاقي- اللاهوتي الذي سيظهره لاحقاً، ولا من عمله الذي يصفه بالمسؤول الرفيع المستوى في وزارة الدفاع البريطانية.. ويشير في مقدمته إلى أن كتابه الموجه إلى القرن الحادي والعشرين ألف ونشر قبل خمسة وعشرين عاماً، ولم تكن الحروب قد نشبت، وكانت الحرب الباردة تحكم كل شيء في حياتنا «الحرب يمكن أن تحدث معاناة بشرية هائلة، ومن الصعب أن تكون موضع اهتمام أخلاقي كبير، بيد أن ما يثير الدهشة في هذه المناقشة هو أنها تدور باستخدام مفاهيم ومبادئ تستعار من نظرية الحرب العادلة في القرون الوسطى، فمفاهيم الحرب العادلة أضحت جزءاً من الكلمات المستخدمة في مناقشة الحرب» ويؤكد الكاتب أن المنطلق في فكرة الحرب العادلة والأخلاقية كاف من مفهوم كنسي لاهوتي في حروب العصور الوسطى، وهذا يؤكد دور العقيدة في شرعنة الحروب وجعلها عادلة وأخلاقية، وعندما تبحث الشرائع والعقائد في السبل التي تجعل الحروب عادلة، فهذا يعني تشريع الحروب من منطلق عقيدي، والسؤال الذي يطرحه القول، ولم يطرحه المؤلف: هل يمكن أن تكون الحرب عادلة بأي شكل من الأشكال عندما تشرعنها العقائد؟ وهل تنطلق العقائد في وضعها قواعد الحرب إلا من غاياتها لتصب الحرب في مصالحها؟ والكنيسة عندما وضعت قواعد الحرب في العصور الوسطى ألم تضعها لتشرعن الحرب وتجعلها في مصلحتها؟!

الأخلاق والحرب
وفي الجانب الأخلاقي للحرب فإن المؤلف ينطلق من آراء الفلاسفة الأخلاقيين، ومن فهمهم للأخلاق في الحرب، ويميل إلى التشكيك في إمكانية توافر جوانب أخلاقية «يمثل التشكيك الأخلاقي تحدياً مباشراً للتفكير المتصل بالحرب العادلة، حيث إنه إذا ما كنا متشككين أخلاقياً في مجالات أخرى لتفكيرنا، فكيف لنا أن نكون عقلانيين أخلاقياً عندما نفكر في الحرب؟ فإذا لم تكن هناك قاعدة عقلانية ثابتة للمبادئ الأخلاقية بشكل عام فإنه يحق لنا أن نتشكك في أن توجد مثل هذه القاعدة بالنسبة إلى مبادئ الحرب العادلة على وجه الخصوص… كذلك أضحى قابلاً- المفهوم الأخلاقي- لسوء الاستغلال من قبل القادة السياسيين والعسكريين ممن لا ضمير لهم، والذين ينتقون فقط المبادئ التي تناسبهم ويستبعدون ما دون ذلك» يبحث الكاتب من موقعيه اللاهوتي والاستخباراتي في مفهوم الحرب العادلة والأخلاقية، ويجد أن هذه الحرب يتم استغلالها من القادة السياسيين والعسكريين لحرفها عن مسارها العادل والأخلاقي بانتقاء ما هو مناسب لهم منها، وما يحفظ لهم مصالحهم وامتيازاتهم، فهل الأمر على هذا الوجه؟
ألا يمكن أن يكون إشعال هذه الحرب من البداية بإيعاز من القادة العسكريين والسياسيين؟ ألا يمكن أن يدفع هؤلاء الشخصيات الدينية والفلسفية إلى إيجاد مسوغات للحرب؟
إن ما بدأ به المقدم للكتاب من استشهاد بقول «عمانوئيل كانط» الفيلسوف الألماني «كان من الضروري أن ينصت البيرقراطيون بعناية إلى الفلاسفة، ويجب على أولئك أن يقدروا مسؤوليات البيروقراطيين» فالمسألة التبريرية هي الحاكم للأمر بين الفلاسفة سواء كانوا لاهوتيين أم لم يكونوا وبين البيروقراطيين الذين توقف كانط عن توصيفهم، لعل هذا القول يظهر العلاقة بين الحرب ومصلحة من يقوم بها.

هل يشكل الدين مسوغاً للحرب؟
الحرب قائمة منذ الإنسان الأول، وأول حرب وقتل في تاريخ البشرية كان لهما علاقة بالخلق والدين والإله بين قابيل وهابيل، والتي انتهت بقتل قابيل لأخيه هابيل، والتي بصيغة بسيطة أدت إلى إفناء نصف البشرية، إذا ما أخذنا في الحسبان نسبة القتل، وقد حاولت النصوص البحث في المسوغات ودراستها، وإقرار حقيقة القتل والدفن وما شابه، واستمرت الحروب في تاريخ البشرية، وحين جاءت الديانات كانت الحروب جزءاً من سيرتها، وقد دعيت هذه الحروب بالحروب المقدسة والفتوح وما شابه ذلك من أسماء فيها من الإجلال محاولات لسحب صفة الحرب عنها والقتل، فهذا يقوم بواجب الفتح، لذلك يجوز له أن يفعل ما يشاء في حربه، والآخر له أن يستجيب ولا قيمة لرأيه، وهذا يقود حرباً مقدسة، والآخر من هذا المنظور غير مقدس، وربما يكون مدنساً، وثالث يخوض حرب تطهير، والتطهير للذات، والآخر في الوقت نفسه، فهي حرب طاهرة بمقياس من المقاييس.. وبقيت الحروب تنشب وفي أحايين كثيرة تحت مسمى الدين، وفي الحروب الداخلية، قامت الحروب الإسلامية الإسلامية، والمسيحية المسيحية على أسس مذهبية وطائفية، والقوي المعتدي دوماً يملك المسوغات، ولكن هل تخرج الحرب عن أن تكون حرباً؟!
يشير فيشر إلى أن الأسس الأخلاقية للحرب العادلة وضعت في القرون الوسطى، وبإيحاء وتنفيذ من الكنيسة وعلماء اللاهوت، وقد أوكل إلى علماء اللاهوت، ورجال الكنيسة البحث عن الأخلاقيات في الحرب العادلة، ووضع الأسس لها! فهل يكون للاهوت المسيحي والإسلامي الدور في البحث عن التسويغات الأخلاقية للحرب، من جهاد وأخلاق وعدل وما شابه؟
وهل الدور اللاهوتي يقتصر على إيجاد المسوغات والتشريعات للحرب وتوصيفها عبر أسس وفتاوى؟
أطرح هذه التساؤلات، مع أن الكتاب لم يعرض للجانب العقيدي الإسلامي في بحثه ورؤيته من الحرب العادلة وأخلاقياتها ضمن ما يجري على الأرض العربية اليوم، وكل طرف من الأطراف يستند إلى مشروعية دينية في حربه! فالحرب مقدسة، والقتل محلل، والخاتمة الألوهية في المكافأة تنتظر من يقوم بفعل القتل الذي شرعنه على رأي كانط التحالف ما بين المشرع والبيروقراطيين؟!
التشريعات هل تجعل الحرب عادلة؟

يقول ألبرت إينشتاين «كم أكره كل هذه المظاهر، وكم أحتقر الحرب التي تبدو في غاية البشاعة، أفضل أن أقطّع إلى قطع على أن أشارك بهذا الحدث البائس» فالحكم الأخلاقي عند إينشتاين هو أنه يفضل الموت والتقطيع على المشاركة في الحرب البشعة البائسة، لكن لم يبحث عن مسوغات، ولم يصنف الحروب في خانتي العدل وعدم العدل، وليس هناك من حرب أخلاقية وأخرى غير أخلاقية، ومجرد المشاركة في الحرب أو قوننتها هو عمل غير أخلاقي، فهل تفيدنا التشريعات اللاهوتية في التخلص من بشاعة الحرب والقتل؟ وما فائدة التشريعات والقوانين؟!
ويبدو أن النزوع الوظيفي يسيطر على فيشر الذي يحاول أن يلفق بين الحرب والأخلاق في القرن الحادي والعشرين، فهو لا يرفض الحرب بالمطلق، وإنما يضع أسساً ويتمسك بأن الحرب يمكن أن تكون عادلة وأن تكون أخلاقية.
«مع تلاشي فترة الحقائق الاستراتيجية الثابتة والوضوح الأخلاقي التي عرفتها مرحلة الحرب الباردة، أصبحنا في مرحلة مملوءة بالتحدي ويسودها الارتباك والتغيير، كما أن شن الحروب أضحى خياراً أكثر من ضرورة للدفاع عن الأرض، ومن ثم أصبحت هناك حاجة أكبر إلى الوضوح الأخلاقي فيما يتصل بكيفية وتوقيت ومكان بدء الحرب فضلاً عن الأداء خلالها، وفي هذا الخصوص، يقدم تقليد الحرب العادلة ليس فقط إرشاداً قوياً، وإنما أيضاً لا يمكن الاستغناء عنه لمواجهة التحديات الأمنية في القرن الحادي والعشرين».
إن الصراع الداخلي لدى فيشر بين النزعة الإنسانية للحرب، وبين صفته الفلسفية اللاهوتية وعمله الوظيفي من جهة أخرى انتصر أخيراً للجانب الثاني، فمن رؤية وظيفية شرعن الحرب ولكن نظر إلى مكانها ونوعها، ومن وجهة نظر فلسفية لاهوتية بحث عن الحرب العادلة وعن المعايير الأخلاقية، وبتعبير آخر فقد وافق على مبدأ الحرب، ورأى أنها ضرورة، ولم يعمد إلى ما طرحه إينشتاين في الحرب ولم يرها فعلاً شائناً، بينما إينشتاين في معرض آخر للسلم رأى أن نزع السلاح لا يتم تدريجياً وعلى مراحل، وإنما يكون دفعة واحدة وفي زمن واحد، وإلا كانت النوازع شريرة.
الحرب عدوان وقتل وإزهاق للأرواح والمقدرات، ولا يمكن أن تكون عادلة بحال من الأحوال، وبالتالي ليست أخلاقية، ولم يستطع الإنسان إلى اليوم أن يتخلص من تقديسها دينياً، وجعلها رسالة مقدسة من وجهة نظر المصالح التي تسوّغها، لذلك خضنا أغلب حروبنا، والحروب التي نخوضها اليوم باسم الإله الرب، ومقررها لا يعرف الطريق والسبيل إلى الرب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن