كلما جاء عيد الأم، كل عام، عاد لي إحساس سابق بالاكتشاف لا ينسى.
كنت مراهقاً مهووساً بتفتيش أغراض والدي، بحثا عن شيء لا أدري حقيقته ولا هدفه.
بين أشياء أبي الكثيرة، كانت المكتبة الوفيرة بالكتب، التي تفقدتها كلها، بحثاً عن الأدب المحرم، والقصص الممنوعة، والآراء الجريئة. بين الكتب السميكة على الرفوف المتعددة، كانت مجموعة قصصية للكاتب الراحل سعيد حورانية.
وبين مجموعته المؤثرة «شتاء قاس آخر»، قصة من تلك القصص التي لا تنسى، عنوانها «الصندوق النحاسي».
وفيها يتحدث القاص بلسان شخصيته التي تحاول الهرب من واقع طبقتها الاجتماعية، وقصرها المادي، ملقيا اللوم في كل عقده الذاتية على والدته الفقيرة المتفانية في عملها كغسالة بيوت.
روى حورانية بشخصيته القصصية تلك، ثورته على واقعه حينها، في حارته بحي الميدان الدمشقي، ونقمته على أمه التي تجرأ حينها في ثورة غضب على رميها بفردة حذائه، وهو يجاهد للانسلاخ عن طبقته وبيئته.
وبعد أن يرتقي الرجل مع الوقت، ليصبح طبيباً، تموت والدته بشيء من قصر عنايته، ويجد وهو يعيد اكتشاف قيمتها أن جل ما تركته والدته حينها من الدنيا خلفها، كان صندوقاً نحاسياً قديماً، وضعت فيه أشياء خاصة قليلة، لم تتخل عنها طوال حياتها، وبينها فردة الحذاء اليتيمة التي قذفها بها ابنها في لحظة غضب.
كثيرة هي القصص التي كتبت عن الأم، وكانت مكتبتنا ملأى بها، لكن ما من قصة بالنسبة لي صنعت لي الفارق في رؤية الأم، وفهمها كإنسان تحوله غريزة الأمومة لقدوة تسامح، ضمن مهمتها المقدسة المتمثلة بالعطاء من دون مقابل.
بعدها بسنوات، كنت ككثيرين من أبناء جيلي أتهيأ للسفر خارج البلاد لتحسين تحصيلي العلمي. كان والدي مسافراً، وكنت الشاب المسؤول الوحيد في الأسرة.
أنبني ضميري، وصارعت فكرتي الرحيل والبقاء، بين ما أرغبه وما يقول لي ضميري أن أفعله.
وفي ليلة من تلك الليالي، التي يختارها القدر لتقول لك شيئاً، تماماً كقصة الصندوق النحاسي، رأيت في منامي، أنني مبحر في باخرة فيها كل من أعرفه وأحبه.
وفي وسط البحر تهب عاصفة، فينقلب القارب بمن فيه، وأشاهد وأنا أسقط في جوف الأزرق المعتم، كل من أحب، يسبقني لظلمة الأعماق، وبينهم أرى وجه والدتي. أسبح نحوها وأحاول الإمساك بها لرفعها، لكن تنحني تحتي كسمكة تدفع وليدتها، وترفعني بساعديها، لتمنحني القوة لصعود السطح، مختفية بعدها مع غيرها بعيداً عن نظـري.
فهمت ما يريد عقلي الباطني قوله، فسافرت، وأنا مدرك أن هذا تماماً ما يريده ضمير الأم، وهو أن يرتقي ابنها، وأن قلبها لن تملأه سعادة شبيهة بسعادة نجاحه وسمعته الطيبة.
فهمنا الأم، أكثر حين أصبحنا آباء، وأصابنا ما يصيبها من ضعف وقوة، لكي تمضي بنا الحياة إلى حيث تشاء، ونحن نسأل أنفسنا كل يوم، ما الذي سيكون عليه أطفالنا؟ وكم مكتوب لنا أن نبقى معاً؟ وما الذي سنلاقيه من جهدنا هذا وتعبنا اليومي؟
رغم هذا نمضي، ونكبر، وننسى أحياناً أن أمهاتنا هن بشر مثلنا تماماً، خلف أمومتهن المقدسة ثمة نساء، طموحات، راغبات، مشرقات بالآمال، وأن ذكرياتهن تتعدى صندوقاً نحاسياً، مملوء بتطلبنا وصرخاتنا وأنانيتنا.
ننسى أن تلك الأم جردت نفسها من كل الألقاب من أجل أن نناديها «أمي».