ثقافة وفن

هم مهمّون للبلد وبالنسبة لي: إنّهم قديسو هذا الزمن … نزار صابور لـ «الوطـن»: اخترت شخصيات سورية من القرن الماضي.. والـ56 المعروضة هي البداية

| سوسن صيداوي - أسامة الشهابي

من الغموض انطلق إلى قمة الوضوح، لكنه في ماضيه كان متهما بنهج لابدّ للقارئ في الأعمال التشكيلية أن يسبر الأهواء عميقا، ليبحث في المكنونات من مشاعر وأفكار كي يصل إلى كينونة الفنان، ليعرف ما يدور في لبّه، إنه الفنان التشكيلي المستفز لمتابعيه دائما، الفنان نزار صابور، الذي عبر هذه المرة عن عمق محبته الواضحة وتقديره اللامتناهي لشخصيات سورية فاعلة ومؤثرة في المجتمع السوري بين الأدب والتشكيل والتمثيل والتأريخ… إلخ، تنوعت الأسماء بين ستة وخمسين أيقونة سورية قُدّمت مقدسة في «نواويس» نزار صابور احتواها بكل رقي في التقديم والعرض -كالعادة- المركز الوطني للفنون البصرية بدمشق في معرض مستمر حتى 31 آذار. للمزيد نورد لكم التفاصيل.
الروحانية المسيطرة

بداية عبر غياث الأخرس رئيس مجلس الإدارة في المركز الوطني للفنون البصرية عن سعادته الكبيرة باستضافة المركز لهذا المعرض المميز. متابعاً حول تقنية الفنان صابور وألوانه وتجربته الجديدة «كل ما قرأته عما كُتب عن أعمال الفنان نزار صابور، يتقاطع في الإضاءة على تجربته الناتجة عن مسارات فكرية متعددة، والمزاج اللوني ينسجم معها، إلى جانب تركيز تلك القراءات على بحث (نزار) في الشكل واللون والموضوع والإيجاز الذي يبرز بتكوينات لونية متغيرة».
وعن تفرّد الفنان التشكيلي في تجربته يتابع رئيس مجلس إدارة المركز الوطني للفنون بدمشق «شيئاً أساسيا في تجربته لم أقرأه عند أحد، يندرج تحت عنوانين:
الأول، هو شفافية التقنية واللون، وعندما أقول شفافية فإنني أقصدها بالمعنى الحرفي للكلمة، لكنها بقدر ما تكشف، فإنها تزيد التجليات البصرية لهذا الفنان غموضا، حيث إن أبعادها تبقى غير مدركة إلا بعد التعمق في رؤيتها.
العنوان الآخر والمهم في جميع أعمال (نزار) أياً كان موضوعها وجغرافيتها، هو «الروحانية التي تسيطر على العمل وتنتقل بسلاسة إلى المتلقي، وكأن بحثه الوجودي في الفن يبث السكينة والسلام عند المتفاعلين مع أعماله».

النووايس.. سورية
تحدث الفنان نزار صابور لـ «الوطـن» عن تجربته الجديدة قائلاً: «يضم هذا المعرض آخر الأعمال التي اشتغلتها في السنتين الأخيرتين وهو بعنوان: «نواويس سورية»، والناووس هو غطاء القبر الذي يضعون عليه وجوهاً وأيادي. وإذا تعمّقنا أكثر نجد أنه من القرن الأول إلى الثالث الميلادي كانت تُرسم وجوه الموتى على التوابيت، لأنهم كانوا يؤمنون أنه بيوم البعث عندما تخرج الروح ستتعرّف إلى صاحبها».
وعن اختيار الفنان لهذا الموضوع، تابع صابور: «لقد خطرت لي الفكرة في هذا الوقت بالذات، بسبب الدمار والموت الذي نعيشه في سورية، لذا أردت أن أقول للآخرين إنهم مهمّون بالنسبة لي وبالنسبة للبلد فهم قديسو هذا الزمن، وقد عانيت في البداية اختيار الشخصيات، لكوني أردت اختيار شخصيات سورية متميّزة منذ خمسينيات القرن الماضي إلى اليوم، وبالتالي ببحثي سوف يكون لدي 300 شخصية على الأقل، لذا قررت أن أختار عشرين شخصية ثم ثلاثين فأربعين إلى أن أصبحوا 56 شخصية، أفكر أن أستمر بهذا المشروع لأنه توجد شخصيات سورية مهمة، لكن لا أستطيع أن أرسم الجميع، يحتاج هذا إلى وقت، فقد أخذت مني هذه الشخصيات الـ56 فترة سنتين حتى أنهيتها.
أما عن معيار اختيار الشخصيات يضيف صابور إنه معيار ذاتي، بمعنى أنني عندما اختار مثلاً الفنان بسام كوسا، ليس لأنه قريب مني شخصياً بل لأنه أهم ممثل سوري اليوم «على مدى ثلاثين عاماً، أحاول أن أخلق كل سنتين أو ثلاث فكرة، لأنني أعتقد أن الفن لا يمكن أن يتوقف، فهو مثل الموت ومثل الحياة، دائم ومتجدّد لذا كل فترة أخلق فكرة ما، وأجد أن هذا مناسب للحالة السورية الصعبة التي عشناها والتي لم يمر مثلها قسوة بتاريخ العالم». وبالنسبة للكلام المكتوب على بعض اللوحات، الذي بسّط من اللوحة وأبعدها عن الغموض الذي لطالما اتبعه الفنان، حدثنا «الكلام المكتوب هو لشعراء، وكانت بالنسبة لي حلول سهلة وساعدتني جدا، فاخترت بعض العبارات لمنذر المصري أو نزيه أبو عفش أو للماغوط أو أدونيس مثلاً واكتبها بطريقة فنية تظهر اللوحة بشكل جميل. كما أنني أعتبر أن الغموض جزء أساسي بالفن، فالفن هو أن أطرح جمالاً لا أن أكرر جمالاً، بمعنى أنني لا أصنع جمالاً بل أقترح حتى لا يتحوّل الفن إلى فن معلّب، فالفن له علاقة بالأحاسيس الحية اليومية، ومواصفات الفن الحقيقي باعتقادي أن يحمل جانبا من الغموض، ومع تقدّم الوقت يجعلك تكتشف كل يوم شيئاً جديداً فيه. فالفن المباشر هو فن مملّ على حين الغامض هو الذي نكتشف فيه كل يوم متعة ولذة ما وفكرة وحركة ما، ويعيش مع الزمن أكثر، والفن بهذا المفهوم هو الذي أوصلنا لما نحن عليه اليوم».
وختم الفنان حديثه بالتوضيح حول التقنية المستخدمة في اللوحات «أنا أعمل جداً على التقنية التي من خلالها يظهر الموضوع والمضمون، ومنذ سنوات وأنا أستخدم مواد طبيعية لها علاقة بذاكرتنا ولها أيضاً خصوصية، فأنا أستخدم «العرجوم» وهو من بقايا عصر الزيتون، ووالدتي كانت تستخدمه للتدفئة، وأنا أجد أن هناك رابطاً روحياً بين شجرة الزيتون والعرجوم، وأسعى لتحويله إلى عمل فني».

المعرض لن يشفع له
من جانبه تحدث الشاعر منذر مصري عن تجربة الفنان صابور قائلاً: «من البديهي أن قيمة أي عمل فني بالنسبة للمشاهد- للمتلقي، الصحيح- الجيد، تأتي من العمل نفسه، لا مما قيل عنه مهما كان، ومن كان قائله. وأن معرضاً كهذا لن يشفع له، إذا لم يكن معرضاً جيداً ومميزا، كل هذه الشهادات، على كثرتها وعلى أهمية ما كتب فيها، بل ربما العكس، قد تبدو وكـأنها مصادرة لرأي المشاهد، ومحاولة غير بريئة للتأثير فيه. إلا أنها في النهاية، ليست بلا دلالة، لابد أنها تعني ما تعنيه، فربما، لا ليس(ربما) بل بالتأكيد يجب على المرء، وعلى المبدع خاصة، أن يشكّ بنفسه، وألا يصدقها من حين لآخر، ولكن لا يمكنه، ليس له، ألا يصدق ما يقوله الآخرون عنه، ما يرونه جميلا أو بشعا فيه، وأكثر ما يتوقعونه ويأملون منه.. أحسب أن هذا ليس من حقه. فتغدو(نواويس) نزار صابور، التي يعرضها في حيز خاص، تأكيدا على العلاقة العضوية، بالأخر، بالآخرين، على اختلاف مواقعهم في تجربته الفنية والحياتية، وعلى اختلافه عنهم، كان آخر همّ نزار أن يصّور أشباهه، ويحصر عمله بمحبيه وأحبابه، وعلى اختلافهم أيضاً عن بعضهم، فماذا يجمع (مرام مصري) مثلاً مع (بسام كوسا). (يوسف عبدلكي) مع (أثير محمد علي). ذلك التنوع الذي تأسست عليه الذاكرة السورية والهوية السورية. وكما(نواويس) إحياء لهذه الذاكرة، واحتفاء بها، هي احتفاء بأصحابهم وبتجاربهم في ذلك الوقت».

نظرة ناقد
على حين تحدث الفنان والناقد التشكيلي د. طلال معلا عن هذه التجربة الجديدة للفنان «تنقل الفنان صابور في موضوعاته بحذاقة، ليبقى على ارتباط بالقيم الإنشائية والتلوينية المشتقة من الواقع النظري بقدرته على توليد المشاهد الحلمية، بدءاً من صورة المدينة التي استحالت في أعماله إلى مخططات عمودية تأولية تتقاطع مع الفراغ الافتراضي الذي يجعل من المدينة بؤرة للنظر والتفكر في مصائر المقدرة البشرية على أن تعطي صفات رمزية أو حقيقية للسراب الذي يلف الأشكال والأشياء المطلة على عزلة المشاهد الذي تضيق خطواته بين القبور أو تقتصر قامته تحت ظلال ما يوحي بالأشجار الليلية الألوان، ولم تشكل المدينة كمكان يشد النظر إليه، وإلى متناقضاته المختلفة، أكثر مما اعتبرها الفنان وعاء ينفي الرؤية ليحشد الأفكار الشرقية في أطرافه، وليضحى بذاكرته اليومية اللونية على حساب وجد لوني متقشف في أغلب الأحيان يحيل إلى السكون الصارم الذي يشبه سكون أماكن العبادة حين تكون خالية من المتعبّدين».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن