ثقافة وفن

المدينة الوادعة تختصر تاريخاً حافلاً … الأقنية الرومانية في سلمية.. تحكي قصص حب خالدة

| المهندس علي المبيض

نستكمل في مقالتنا لهذا اليوم ما كنا قد بدأناه في المقالات الثماني الماضية التي استعرضنا فيها القلاع والحصون في أرجاء محافظة حماة كأحد المعالم التاريخية في المدينة التي تعود إلى عصور تاريخية مختلفة، وقد تبين لنا كثرة القلاع التي تقع ضمن مساحة صغيرة نسبياً، وهي تدل من دون أدنى شك على أهمية محافظة حماة الإستراتيجية في المنطقة ودورها الحضاري وعلى اختلاف المراحل التاريخية. فحيثما توجه المرء يجد نفسه محاطاً بآثار العديد من الممالك التي قامت فيها ولا تكاد تخلو منطقة في محافظة حماة من موقع أثري أو معلم تاريخي يروي قصص حضارات قامت وانتشرت منها إلى أصقاع العالم كافة، ما دمنا نتحدث عن محافظة حماة فلابد لنا أن نمر على مدينة سلمية وهي تتبع إدارياً إلى محافظة حماة تلك المدينة الوادعة الحالمة التي تحتضن ذكريات تاريخ عريق حافل، سلمية مدينة غارقة في القدم فلقد عرفها كل الأقوام التي مرت على بلاد الشام وقد دلت الأدوات الصوانية الأثرية المتنوعة التي تم اكتشافها أن الإنسان الحجري سكن كهوفها منذ أقدم الأزمنة.

تقع مدينة سلمية على مسافة (30 كم) إلى الشمال الشرقي من مدينة حماة وترتفع عن سطح البحر (475 م) تتميز المدينة بموقع إستراتيجي مميز لأنها تشكل عقدة وصل بين الشمال والجنوب وبين الشرق والغرب وكانت القوافل التجارية تلجأ إليها خلال رحلاتها حيث تجد فيها أماناً لقربها من البادية التي يكثر فيها قطاع الطرق واللصوص وهو ما أكسبها أهمية خاصةً تفسر لنا الأحداث التاريخية الجسام التي وقعت فيها، أطلق عليها في العصر اليوناني اسم سلاميس تخليداً لذكرى معركة سلاميس التي انتصر فيها اليونانيون على الفرس ويرجع بعض الباحثين سبب التسمية أيضاً إلى وفرة المياه فيها، ما جعل الناس يطلقون عليها سيل مياه أو سيل ميه وحرف مع مرور الوقت إلى سلمية، لم يتفق الباحثون على تحديد زمن دقيق لبداية نشوء هذه المدينة ومن المحتمل أن يكون بدء استيطان مدينة سلمية في الألف الرابع قبل الميلاد وربما قبل ذلك حيث تم العثور على بعض اللقى الأثرية في المدينة تشير إلى أنها كانت مأهولة في العهدين السومري والأموري أي خلال الفترة ما بين (3000 – 3400) قبل الميلاد وقد طرأ على المدينة خلال عمرها الطويل حالات صعود وهبوط وانتقلت سلمية بين مد وجزر حيث كانت مزدهرة في العهد الآرامي وبلغت أوجها في العهود اليونانية السلوقية والرومانية البيزنطية، فامتدت عماراتها خارج قلعتها وأصبحت مركزاً تجارياً كبيراً وكونت علاقات وطيدةً مع مملكة أفاميا وارتبطت معها بطريق معبد، وقد تعاظم الدور الديني لسلمية في العصر البيزنطي وتم تحويل معبدها القديم إلى كنيسة ثم ما لبثت أن صارت أبرشية يتبع لها أكثر من أربعين كنيسة في بلاد الشام، وتكمن الأهمية التاريخية للمدينة في احتوائها على آثار عديدة ومتنوعة تعود لحقب تاريخية مختلفة حيث تضم مدينة سلمية الكثير من الآثار اليونانية التي تعود للفترة السلوقية في سورية والتي بدأت بعد موت الإسكندر في عام (323 قبل الميلاد) وامتدت حتى عام (64 قبل الميلاد) عندما احتل الرومان سورية كما تضم شواهد وآثاراً إسلامية من أهمها المسجد الذي يضم مقام الإمام إسماعيل رضي الدين المتوفى عام (289 ه) ويقع جنوب ساحة المدينة والذي كان معبداً للإله زيوس في العصر اليوناني وهو ذو طابع هلنستي وفي العصر الروماني تحول إلى معبد للإله جيوبيتر وإلى كنيسة في العصر البيزنطي ثم تحول إلى مسجد في أواخر القرن الثاني الهجري ليضم ضريح الإمام إسماعيل الذي عرف المسجد باسمه، ومن أهم مواقعها الأثرية القلعة التي شيدت في العصر اليوناني وتقع وسط سوق سلمية على الطرف الشمالي الشرقي من ساحتها العامة وهي قلعة كبيرة تتوضع بمستوى الأرض تقريباً مربعة الشكل يبلغ طول ضلعها نحو (130 م) ويصل ارتفاع سورها إلى (8 م) ويبلغ طوله نحو (3800 م) والجزء المتبقي من السور حالياً لا يعود إلى العصر اليوناني إلا في قاعدته أما الجزء العلوي منه فيعود إلى العصر المملوكي والسور مدعم بثمانية أبراج تقع في زوايا القلعة ومنتصف جدرانها الأربعة، وقد أعاد بناء القلعة وجددها نور الدين زنكي وبأسلوب العمارة نفسه في العصر اليوناني فرفع أبراجها وزاد ارتفاع سورها وبنى عدداً من الأقبية لتكون مستودعات للتموين وزاد في تحصينها ومنعتها واتخذها مقراً لجنده استعداداً لملاقاة الصليبيين عند مشارف مدينتي حمص وحماة وأقام في الجدار الجنوبي بناءً مكوناً من طابقين: الأول: مكون من عقود رباعية ذات دعائم أطلق عليه القبو، والثاني: يتكون من خمس غرف وأمامها شرفة مدعمة بخمسة أعمدة بازلتية للصعود إلى الطابق الثاني بواسطة درج يلتصق بالبناء، ويحيط بالقلعة خندق يتراوح عمقه بين (10 – 15 م) لزيادة تحصينها وهو يضم العديد من المغاور التي استعملت كإسطبلات، وكان للقلعة طريق وحيد من الشرق يضم جسراً خشبياً متحركاً يرفع أثناء الحرب، لم يتبق من القلعة شيء سوى جزء من سورها في الجهة الجنوبية الشرقية طوله نحو (20 م).
ويوجد حول المدينة مقام الخضر ويقع في الجهة الشماليّة من المدينة بمسافة (3 كم) وقد شيد فوق قمة جرداء وكان قديماً عبارة عن دير عرف باسم دير مارجريوس وبعد دخول الإسلام لتلك المنطقة تحوّل إلى مسجد صغير عرف بمزار الخضر ولم يتبق منه حالياً إلا جزء من جدار وقاعدة للمحراب.
ومن المعالم الأثرية المهمة في مدينة سلمية عدد من الأقنية القديمة الرومانية التي تحيط بالمدينة ويذكر المؤرخون أن مدينة سلمية وريفها كانت تحتوي على360 قناة موزعة في كل أرجائها وكانت هذه الأقنية تروي الأراضي الزراعية، ويتناقل أبناء المنطقة قصصاً وأساطير ينسجونها حول هذه الأقنية وتعتبر قناة العاشق من أهم تلك الأقنية التي كانت تصل إلى أفاميا، وتتحدث كتب التاريخ عن قصة حب قديمة ترجع للقرن الأول الميلادي عاشها أمير مدينة سلمية مع ابنة ملك أفاميا في تلك الفترة ويبدو أن الحب كان من طرف الأمير فقط وعندما تقدم لخطبة ابنة الملك اشترطت عليه حتى تقبل به زوجاً أن يجر مياه الري من مدينته سلمية إلى مملكة أفاميا وكانت سلمية غنية بالماء كما أسلفنا بالحديث عنها في مقدمة المقال، ولكي يبرهن الأمير على حبه الكبير لابنة ملك أفاميا فقد استجاب لطلبها وشق قناة لجر المياه من سلمية إلى أفاميا يصل طولها إلى 150 كم بناها من حجارة بازلتية منحوتة بشكل فني ومتقن لتكون هذه القناة المعجزة عربون الحب الكبير الذي يكنه للأميرة ومهراً للزواج منها.
كما تضم المدينة حماماً أثرياً يعود تاريخه للعصر الروماني ويسمى حمام البنات ويعتبر من أجمل وأهم الحمّامات الأثرية في سورية لاحتوائه عدة سويات أثرية تمثل أغلب المراحل التاريخية المعروفة التي تعاقبت على مدينة سلمية حيث تشير التنقيبات الأثرية التي جرت فيه أن الحمام الأثري يعود إلى العصر الروماني (64 ق. م – 395 م) ويتميز بالقواعد والمداخل الرومانية وقد استخدم حماماً منذ القدم حيث يؤكد نقشان عثر عليهما ضمن الحمام مؤرخان بالقرن التاسع الميلادي أن هذا الحمّام قد استمر بأداء وظيفته في تلك الفترة الزمنية، يأخذ حمّام سلميّة شكلاً مستطيلاً مساحته844 م2، وتعتبر الواجهة الشرقية من أهم واجهات الحمام وقد شملت أعمال الترميم التي تمت في العصر المملوكي إعادة تأهيل أغلب أقسامه وتطوير أجزائه وعناصره حتى أخذ حمام سلمية شكله المعماري الحالي بأقسامه الكاملة التي بلغت قمة اكتمالها في ذلك العصر، وليصبح هذا الحمّام متطابقاً في تخطيطه وأقسامه مع أشهر الحمامات العائدة للعصر المملوكي، بل صار تخطيطه يمثل قمة تطور الحمامات الإسلامية في بلاد الشام، بقي أبناء سلمية يستخدمونه كحمّام وحيد في هذه المدينة حتى أواسط القرن العشرين ثم أقفل بعدها بسبب قلة المرتادين عليه يقسم الحمام إلى عدة أقسام هي: القسم الأول البراني ويتألف هذا القسم من مساحة مربعة يتوسطها فسقية (بحرة) مثمنة ويغطيها قبة كبيرة كما يضم البراني إيوانين شرقياً وغربياً، يلي البراني القسم الثاني ويسمى الوسطاني وهو عبارة عن مساحة مربعة مغطاة بقبة محمولة على أربعة مثلثات كروية والقسم الثالث يسمى الجواني وهو يتألف من مساحة مربعة طول ضلعها نحو (6 م) مغطاة بقبة ضخمة ويفتح على هذا الفراغ ثلاثة أواوين معقود كل منها بعقد مدبب ويوجد بالزوايا الأربع لها أربعة أبواب معقودة بعقود نصف دائرية يؤدي كل منها لغرفة مربعة (مقصورة) مغطاة بقبة ويشار إلى أن كل القباب التي تغطي أجزاء هذا الحمّام تحمل مواصفات وأسلوب العمارة العربية وقد تم بناؤها خلال الفترة (1920 – 1924 م) وهي مزودة بفتحات دائرية مغلقة بالزجاج الملون لتوفير الإضاءة وقد بنيت جميع جدران الحمّام بحجر البازلت على حين بنيت كل قباب الأجزاء الثلاثة للحمّام من الآجر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن