بين ثلاثة أزمان، ثمة ثلاثة أجيال. وثلاثة سهول.
في الزمن الأوسط، كنا نجلس وفق ما سجلت الذاكرة، نستمع، ونحن نلتهي بألعابنا، لأحاديث الكبار وهم يتحدثون عن أساتذتهم في المدرسة، حين كانوا في سننا باحترام يثير بنا خشوعاً مؤثراً.
أحد هؤلاء الأساتذة، كان رجلاً طويلاً نحيلاً، يحمل لقب الأستاذ، ولا يجري الحديث عنه، إلا وسبقه لقبه، الذي كان يبدو لنا نحن الصغار بمنزلة تبجيل لا يعلو عليه لقب.
كان يمر الرجل بنا، يعتمر قبعة الستينيات المعتادة، فيرفع يده ملقيا السلام، فيهب من على التراس راداً السلام بنصف وقفة، وبيد تلامس الصدر.
قسم كبير من الأساتذة، حينها كان يعمل في أراضي الأسرة الزراعية. يساعده طلابه أحياناً بحسن نية، ونوع من رد الجميل. كانت التربة خصبة، والزراعة وسيلة عيش وشرف وإرث، وشيئا من كبرياء الأسرة.
كنا أولاد الزمن الأوسط نسمع ما يروى عن الزمن الأول، ونتأمل في زمننا.
كان قسم من أساتذتنا من هذه الفئة، والقسم الآخر ليس منها. في زمننا اختلطت الأمور، فالعلم صار مرتبطا بمسائل أخرى، منها العقيدة الإيديولوجية، ومنها الانتماء الحزبي، وهكذا، تسربت قدسية التعليم لطبقات التاريخ الذي سبقه، وبقي منها ما يكفي لتخريج أجيال، بجانب طرق رأسها بالعلوم النظرية، والنظريات الإيديولوجية، بقي شيئاً من العلم، المتمثل بلغة جيدة، واستيعاب عام للتاريخ والجغرافيا والأدب، وثقافات الشعوب بالحد الأدنى.
وحينها أيضا، كان أغلبية أساتذتنا يعملون في الأرض، لكن في الصالات البلاستيكية التي انتشرت كموجة جارفة، وانتشرت معها، حمى الربح، فاختلطت المزروعات بالمواد المهرمنة، والأسمدة الصناعية، وانقلب لون السهل في أشهر الخريف الأولى، للون واحد هو الرمادي البلاستيكي، الموحد بين الجميع، أساتذة وطلاباً، موظفين وملاكاً وغيرهم.
الزمن الأوسط ذاك كان زمننا، وكنا فيه نسير بين مواسم الصالات المهرمنة وقاعات الدرس، التي كان فيها الأستاذ يعطي ما يستطيع، لكن من دون أن تغادره هيبته، وإن كانت تضاءلت عن الزمن الأول، وتراجع احترامها، لكنها بقيت بحدودها الدنيا، بوابة أمل مفتوحة يتعلق بها الأهل، حين النظر لأولادهم ومستقبلهم الغامض.
في الزمن الثالث الحالي، لم يعد من السهل شيء تقريبا. ظن الناس بتأثير خلطة فساد، وطموح، وطمع، أن هذه السهول ليس بها خير، إن لم تلحق بحمى العمران الفوضوي، التي ضربت البلد منذ عشرين عاماً. فاجتزأت الأراضي، ورفعت الأعمدة، ومالت الأسطح بعضها على بعضها الآخر في سباق على المال والزبائن، والربح السريع.
باع الأساتذة أراضيهم وتهيؤوا للعمل في سمسرة العقارات، باع أهالي الطلاب أراضيهم، واشتروا سيارات.
وبين الطرفين، صار العلم شهادة يجب تعليقها على الجدار، كبطاقة تعريف وتشريف، لكن العلم دونها، والمعرفة الناقصة لا تعيبها.
وهكذا صارت المدرسة في الزمن الثالث ما هي عليه الآن، يضرب الطالب الأستاذ، إن لم تعجبه علامته، ويطرد الأستاذ الطالب، إن لم يلتحق بجلسات حصصه الأسبوعية.
ومن دون تعميم، ولكن من شكوى عامة، أصاب العلم ما أصاب تلك السهول، ولم تعد الأستذة صفة يفاخر بها صاحبها، بل مهنة ثابتة تتيح له المجال لعمل إضافي يحتاجه بعد الظهر وفي الصيف.
أخيراً، لا داعي لترداد ما قاله المشاهير عن التعليم، ومكانة الأساتذة العلماء، فمن يعرف مكانة العلم يضع الأستاذ فوق كل مرتبة، وإلا فالمستقبل هو أمل مشتت.