ثقافة وفن

إبراهيم ناجي… شاعر الأرواح الذي بقي على الأطلال

| أنس تللو

ربوةٌ شعريةٌ هائلة تَلقى حين تَرقى إليها مُتعةً لا تُدانيها متعة؛ وتشربُ من ظهرانيها شراباً سائغاً قلَّما تذوق مثله، وما ذاكَ لبراعةٍ شعريةٍ فائقةٍ فقط ولا هو لموهبةٍ عريقة أصيلة فحسب، وإنما لأن صاحبها قد نهَل من الثقافتين العربية والغربية وأصاب منهما صوبا محكما، وجمع إلى هذا وذاك موهبةً طبيةً حاذقة جعلته يدرك تفاصيلَ الجسدِ الدقيقة من خلال مشاهدته للمرضى في عذاباتهم الجسدية؛ فجاء شعرُهُ كأنه تشريحٌ للذات الإنسانية في معاناتها الروحية العذبة وفي مفاتنها التأملية العميقة، ولعلَّه من خلال متابعته لأنَّات المرضى الجسدية وشهقاتهم الروحية اقتبس لشعره مزيجا بديعا يخاطب النفوس ويناجي الأرواح.

شاعرٌ أقلُّ ما يقال فيه: إنه شاعر روحي عميق يعرف كيف يمسك بزمام الكلمات ويطوِّعها لغاياته حتى لكأن اللغة العربية بكل إمكاناتها تنساق لخدمته فتنسال على لسانه أبيات شعرية عميقة ملأى بتقطيرات البلاغة ومفعمة بتقطيعات العروض؛ ولا يكفيه ذلك كله لوصف ما يعتمل في نفسه من عواطف جياشة متناثرة.
كثيرون من الناس عاشوا السنين الطوال فلم يغنموا ولم يغرموا فضاع عمرهم هباء، وقلة نادرة عاشت أقل القليل فغنَت واغتنت وأخذت ومنحت فكانت حياتهم ظلاً نادراً من ظلال الإبداع العميق.
من هؤلاء القلة كان الشاعر الروحاني إبراهيم ناجي.
خمسة وخمسون عاماً من 1898 حتى 1953.
كان مولده في القاهرة عام 1898، وكان متفتح الذهن متوقدا، ولم تشغله دراسته للطب عن متابعة شغفه الشديد بالأدب؛ يشجعه على ذلك والده المثقف؛ فانكبَّ على قراءة دواوين الشعراء الكبار مثل المتنبي والمعري وابن الرومي وأبي نواس وغيرهم، وتأثر كثيراً بأدباء وشعراء عصره مثل أحمد شوقي وخليل مطران، ودرس العروض وعلم القوافي، كما نهل أيضاً من الثقافة الغربية فدرس كبار الأدباء في العالم مثل شكسبير وتشارلز ديكنز وغيرهم، وقرأ قصائد شيلي وبيرون وآخرين من رومانسيي الشعر الغربي.
عمل طبيباً في وزارة المواصلات، ثم في وزارة الصحة، ثم مراقباً عاماً للقسم الطبي في وزارة الأوقاف.
تأثر بمدرسة الديوان وأعلامها مثل عباس محمود العقاد وإبراهيم المازني، وكان عضواً في جماعة أبولو ووكيلا لها؛ تلك الجماعة التي قدمت عدداً من الشعراء المصريين والعرب الذين تحرروا من الخيالات المتوارثة القديمة وخرجوا في أشعارهم عن المألوف الشعري الكلاسيكي.
كما كان أيضاً رئيساً لرابطة الأدباء في مصر في الأربعينيات من القرن العشرين.
وقد تأثر ناجي كثيراً بالشعر الوجداني التأملي.
ومنذ عام 1926 بدأ ينشر في صحيفة السياسة الأسبوعية بعض القصائد الغربية التي عرَّبها مثل أشعار الفريد دي موسييه وتوماس مور وبودلير.
كما قام ناجي بتعريب بعض الروايات من لغات مختلفة، فعرَّب عن الإنكليزية رواية الجريمة والعقاب لديستوفسكي، وعن الإيطالية رواية الموت في إجازة.
كذلك قام بإصدار مجلة حكيم البيت، وألّف بعض الكتب الأدبية مثل مدينة الأحلام وعالم الأسرة.
ومن دواوينه الشعرية: وراء الغمام (1934)، ليالي القاهرة (1944)، في معبد الليل (1948)، الطائر الجريح (1953).
كما صدرت أعماله الشعرية الكاملة في عام 1966 بعد وفاته عن المجلس الأعلى للثقافة والفنون.
ومن أشهر قصائده قصيدة الأطلال التي غنتها كوكب الشرق أم كلثوم وهي مزيج من قصيدتيه الأطلال والوداع.
ولقصيدة الأطلال قصة فريدة:
أحب إبراهيم ناجي في صباه فتاة ولم يتمكن من الزواج منها، ثم غادر القاهرة لدراسة الطب؛ وعندما عاد قيل له إن الفتاة قد تزوجت.
وفي إحدى الليالي سمع طرقاً شديداً على باب منزله ففتح الباب ليجد رجلاً يريد طبيباً لمساعدة زوجته التي كانت في حالة ولادة متعسرة، فأخذ ناجي حقيبته وذهب مع الرجل إلى بيته، حيث كانت زوجته تعاني المخاض المؤلم وهي بوضع صعب.
اقترب منها ناجي ونظر في عينيها فإذا هي حبيبته القديمة، فعاجلته الدهشة الشديدة وخفق قلبه بسرعة لهذه المصادفة العجيبة وابتلع شهقته لكي لا يلاحظ عليه الزوج، ثم قام بمعالجتها بصمت وانتظر حتى تتم الولادة ثم خرج من بيتها بعد أن اطمأن على صحتها وصحة مولودها.
عاد إلى بيته وكتب قصيدة الأطلال المؤلفة من مئة وخمسة وعشرين بيتا بعد هذه الحادثة الفريدة.
يا فُؤَادِي لا تسل أين الهوى
كَانَ صَرْحاً مِنْ خَيَالٍ فَهَوَى
اسقني واشرب على أطلالِه
واروِ عني طالما الدمعُ روى
كيف ذاك الحبُّ أمسى خبراً
وحديثاً من أحاديثِ الجوى
وفيها يقول متحسراً على العمر الذي مضى هباء:
ذَهَبَ العُمْرُ هَبَاءً فَاذْهَبي
لَمْ يَكُنْ وَعْدُكِ إلا شَبَحَا
صَفْحَةٌ قَدْ ذَهَبَ الدَّهْرُ بِهَا
أَثْبَتَ الحُبَّ عَلَيْهَا وَمَحَا
انظُري ضِحْكِي وَرَقْصي فَرِحاً
وَأَنَا أَحْمِلُ قَلْباً ذُبِحَا
وَيَرَاني النَّاسُ رُوحَاً طَائِراً
وَالجَوَى يَطْحَنُنِي طَحْنَ الرَّحَى
ثم قبيل نهاية المطاف يناجي نفسه ويؤكد لها أن الأحجار قد تستوعب أشجانه وتفهمه أكثر من الإنسان فيقول:
يا مغني الخُلدِ ضيَّعتَ العمرْ
في أناشيدَ تُغتَّى للبشرْ
ليس في الأحياءِ من يسمعُنا
ما لنا لسنا نغني للحجرْ
للجماداتِ التي ليستْ تعيْ
والرَّميماتِ البوالي في الحُفرْ
غنِّها سوف تراها انتفضتْ
ترحمُ الشاديْ وتشدو للوترْ
ولعله من المؤلم أن نقول إنه في أواخر حياته لم تمكنه حساسيته الفائقة من أن يتسامى عن نقد النقاد اللاذع له؛ فقد نقده الدكتور طه حسين نقداً عنيفاً والأديب عباس محمود العقاد وليس مرد ذلك إلى النقد وحده بل بسبب ارتباط إبراهيم ناجي مع جماعة أبولو وهذا ما دفع الدكتور طه حسين إلى القول بأن شعر إبراهيم ناجي هو شعر صالونات لا يحتمل أن يخرج إلى الخلاء فيصيبه البرد من جوانبه.
امتعض إبراهيم ناجي من هذا الكلام وهو الأديب الحساس المرهف فهاجر وسافر إلى لندن حيث كان مصيره بشعا إذ دهمته سيارة عابرة فنقل إلى مستشفى سان جورج وقد تألم لهذا الأمر آلاما روحية أكثر من ألمه الجسدي ومازال يكابر على نفسه حتى توفي في الرابع والعشرين من آذار عام 1953.
رحمك اللـه أيها الشاعر الكبير وغفر لمن نال منك.
حقا لقد كان شعرك يطير بالمتأمل بجناحين من ذكرى وخيال وتعابيرك تسمو بالنفس وترقى بالفكر، بل لقد كانت أشعارك تبعث على الدفء الكبير، إنها تدفئ القلب والروح معا ويكفيك فخراً أن قصيدتك الأطلال التي تغنيها كوكب الشرق كانت تجمع آلاف الأشخاص في المسارح ليتدفؤوا بحنين كلماتها تلك القصيدة التي كانت خاتمتها تصلح لأن تكون نهجاً لحياة متجددة.
أَيُّهَا الشَّاعِرُ تَغْفو
تَذْكُرُ العَهْدَ وَتَصْحو
وإذا مَا اَلتَأَمَ جُرْحٌ
جَدَّ بِالتِذْكَارِ جُرْحُ
فَتَعَلَّمْ كَيْفَ تَنْسى
وَتَعَلَّمْ كَيْفَ تَمْحو
أو كُلُّ الحُبِّ في رَأْيِكَ
غُفْرَانٌ وَصَفْحُ

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن