ثقافة وفن

المدن المنسية موقع أثري فريد لا مثيل له في العالم

| المهندس علي المبيض

المدن المنسية في الشمال السوري يمكن أن تشكل نواة مهمة للمشاريع الاستثمارية والتنموية.
في البداية نبين للسادة القراء أننا من خلال هذه المقالات الأسبوعية التي نقوم بنشرها إنما نحاول أن نقدم لمحةً موجزةً عن بعض المعالم التاريخية في سورية وقد تحدثنا سابقاً عن القلاع والحصون كأحد الشواهد الحية على شموخ السوريين واستبسالهم في الدفاع عن أوطانهم وابتكارهم أساليب صمود متنوعة وطرقاً مختلفةً للتشبث بأرضهم. ونهدف من خلال ذلك أن نتعرف على حجم الأخطار والأطماع الكبيرة التي كانت تحيط بوطننا عبر الحقب التاريخية المختلفة، التي تدل بشكل أو بآخر على أهمية سورية وموقعها الإستراتيجي الذي مكنها وأتاح لها أن تلعب دوراً رئيسياً في المنطقة، ويفسر لنا كذلك أسباب الحروب الكثيرة التي دارت رحاها فوق أرضها الطاهرة وكان الاستيلاء على خيراتها هو الهدف الرئيسي فيها، ونؤكد في هذا الإطار أنه من واجبنا جميعاً مؤسسات رسمية وجهات خاصة ومجتمعاً محلياً وأفراداً تنقية تاريخنا من أي شائبة وإزالة أي تهمة يحاول أعداؤنا إلصاقها به، لأن أي تشويه أو تزوير لهذا التاريخ إنما هو إساءة شخصية لكل فرد فينا، وكما يعلم الجميع فإن أعداء سورية يسعون باستمرار بشتى الطرق والأساليب لتشويه التاريخ السوري وتزويره ونسب الأعمال المشينة له وإلصاق كل الصفات القبيحة والمذمومة به بهدف بتر الماضي عن الحاضر وخلق جيل يخجل من أجداده وآبائه ويتبرأ من ماضيه، وهذا أمر خطير لأن سقوط القدوات والرموز الوطنية يضعف تماسك المجتمع ويؤدي إلى تفككه ويفقده أهم أسباب قوته واستمراره ولا يعتبر استعراض الوقائع التاريخية نكوصاً للوراء وهي ليست دعوة للعيش في الماضي والذكريات بل إن الاستفادة من التجارب التاريخية يجنبنا الوقوع في الخطأ، ويجعلنا أكثر إدراكاً ومعرفة والأمر أشبه ما يكون بجذور الأشجار التي تمدها بالحياة وتشكل أحد أهم أسباب استمرارها ومقاومتها للرياح العاتية، ومن هنا تبرز لنا مجدداً أهمية أن يكتب السوريون تاريخهم بأيدي أبنائهم.
وضمن هذا السياق فقد عرضنا في المقالات السابقة لمحةً موجزةً عن بعض القلاع والحصون في مدينة دمشق وحلب واللاذقية وطرطوس وحماة، وفي مقالتنا اليوم سنقدم مثالاً آخر مختلفاً عن القلاع السورية التي استعرضناها سابقاً وهي قلعة سمعان العمودي.
تقع قلعة سمعان ضمن موقع يعتبر من أكثر تجمعات المناطق الأثرية كثافةً في العالم ومن المواقع الأثرية المهمة والفريدة ليس في سورية فقط بل في العالم بأسره ويسمى المدن المنسية وتعتبر المدن المنسية مثالاً لحضارة فريدة لا مثيل لها في العالم وقبل الحديث عن قلعة سمعان نجد أنه لا بد أن نعطي فكرةً موجزةً عن المدن المنسية.
المدن المنسية أو المدن الميتة أو المدن المهجورة أو المدن العتيقة أو مدن الكتلة الكلسية أو القرى الأثرية عدة تسميات لموقع واحد وهو عبارة عن مجموعة مدن وقرى أثرية سورية تقع شمال غرب سورية ضمن الحدود الإدارية لمحافظتي حلب وإدلب، أطلق عليها اسم المدن المنسية أو الميتة لخلوها من السكان ويعود بناؤها إلى الفترة الممتدة بين القرنين الأول والسابع الميلادي وحتى القرن العاشر. وقد بدأ الاستيطان والاستقرار فيها منذ القرون الأولى للميلاد وتقع المدن المنسية ضمن مساحة مستطيلة الشكل مقدارها نحو 5600 كم2 تقريباً حيث يتراوح طولها زهاء140 كم وعرضها بين20 إلى40 كم يحدها من الجهة الشمالية قورش (النبي هوري) ومن الجنوب أفاميا ويحدها من الجهة الشرقية طريق حماة، حلب، إعزاز وغرباً وادي العاصي ووادي عفرين، وهي تتربع على سلسلة مكونة من سبعة جبال قليلة الارتفاع هي جبل سمعان وجبل الحلقة وجبل الأعلى وجبل الدويلة وجبل باريشا وجبل أريحا وجبل الزاوية ويتكون من كتلتين تفصل بينهما مدينة البارة، تم إضافة المدن المنسية إلى قائمة التراث العالمي من منظمة الأمم المتحدة للثقافة والتربية والعلوم اليونسكو عام 2011 وأطلق عليها منذ ذلك التاريخ اسم القرى الأثرية في شمال سورية وتشمل المدن المنسية كيمار وقلعة كلونة وقلعة نجم برج حيدر والنبي هوري وسيرجيلا ودير سمعان وكفر قدو أو كفر قابو وبراد ودير براد وكنيسة المشبك وخراب شمس ودير مشمش وقلب اللوزة وداحس وسرفانيا ووباصوفان، وتعتبر البارة إحدى أهم المدن المنسية وتبعد عن سيرجيلا قرابة 3 كم وتزخر بآثار مهمة تعود لعصور مختلفة وتضم بيوتاً حجرية وأديرة مثل دير سوباط وثلاث كنائس وأضرحة ضخمة ويقع إلى القرب منها حصن عربي هو قلعة أبي سفيان. وتحكمت البارة بالطريق التجاري الواصل بين أفاميا وأنطاكيا وفيها العديد من معاصر الزيتون والمخازن والآثار الإسلامية مثل القلعة والمسجد.
وبلغت المدن المنسية أوج ازدهارها بين القرنين الرابع إلى بدايات القرن السابع الميلادي حيث شهدت هذه المدن نهضةً عمرانيةً واسعةً شملت جميع المناطق وبرزت من خلال مظاهر التنظيم العمراني التي وصلت الينا من حيث تصميم الكنائس ووجائب المباني الدينية وأسلوب بنائها ومدى ملاءمتها للوظيفة التي صممت لها وحركة الزوار والحجاج داخل الكنيسة. كما شهدت تلك الفترة إشادة أكثر من 2000 كنيسة توزعت بشكل غير متساو بين المناطق فنجد بعض القرى تحوي كنيسةً واحدةً على حين أن قرى أخرى تضم كنيستين أو ثلاث كنائس أو أكثر معظمها من الكنائس ذات الواجهات الغنية بالزخارف، كذلك نشطت فيها حركة تجارية كبيرة اتضحت جليةً من الأسواق التجارية ذات الأروقة والمنشآت التخديمية المكملة التي تضم محال تجارية على الجانبين وتتبين كذلك من خلال عرض الشوارع.. وغيرها التي تدل على مواصفات وضوابط نظام البناء المتبع في تلك الفترة وهذا بالطبع يعكس التقدم العمراني الكبير الذي بلغته المدن المنسية والخبرة التراكمية الكبيرة للسوريين، قدر علماء الآثار أن عددها يبلغ أكثر من700 موقع أثري منها ما هو مسكون حالياً ومنها ما هو غير مسكون، بعض هذه المدن قام على خرائب مسكونة وعدد منها قامت على أنقاضها تجمعات سكنية حديثة غير أن تغييرات كبيرة حدثت في تلك المنطقة نتيجة التوسع السكاني العشوائي وغير المدروس حيث تم استخدام حجارتها للبناء وأراضيها للزراعة.
بنيت المدن المنسية وفق أسلوب معماري واحد أطلق عليه علماء الآثار اسم فن العمارة السورية تمييزاً له عن فن العمارة الكلاسيكية اليونانية والرومانية، حيث تتميز بأسلوب زخرفة جميل لا مثيل له في العالم من الداخل والخارج وبرز في تلك الفترة المهندس السوري قيريس الذي أخذ يطور أشكال الزخارف النباتية وطبعها بطابعه الخاص الذي بقي سائداً في العمارة السورية أكثر من مئتي عام، إن هذا التنوع والغنى في الزخارف يشير بصورة واضحة إلى ازدهار المنطقة وتفوقها المعماري حيث ساهمت بشكل أو بآخر في تعزيز الوحدة الثقافية المنفتحة على الخصائص الإقليمية والمحلية وعلى التأثيرات الخارجية وتعكس مرحلة من مراحل تطور فن الفسيفساء وانتقاله من الأسلوب الكلاسيكي واعتماده على الأساطير الوثنية ثم الأسلوب الديني ولاسيما المسيحي الذي يتميز ببساطته واهتمامه بالجمال الروحي واعتماده على الرموز الروحية والزخرفة النباتية والحيوانية وشكل مرحلة في الانتقال لاحقاً إلى فن الفسيفساء الإسلامي ما جعلها تتبوأ مكانةً متفردةً ضمن المواقع الأثرية العالمية تستحق أن نبذل جميعنا مساعي جدية للحفاظ على فنون عمارتها وميزاتها لأنها تشكل عامل جذب سياحي ومحوراً لنشاطات سياحية تثير الإعجاب بجمالها وعظمة بنيانها وفرادته.
تعتبر حضارة المدن المنسية حضارةً سوريةً تحكي بلغة الحجر والعمارة قصص من سكنها من فلاحين وحرفيين وقديسين.. وتؤرخ جزءاً مهماً من تاريخ السوريين ومحاولتهم تعزيز استقلاليتهم عن روما وبيزنطة ولاسيما بعد انتصار المسيحية النهائي في القرن الرابع عشر الميلادي كما تنبع أهميتها أيضاً من أنها:
– تجسد أهم الأمثلة على مدن الحضارة الهلنستية وهي الحضارة التي نتجت عن تمازج الحضارة الآرامية السورية والإغريقية التي وصلت مع الإسكندر المقدوني.
– تتجسد فيها مادياً ومعمارياً أقدم العقائد الروحية والمذاهب الفكرية.
– تضم معالم أثرية مهمة في مقدمتها درة الكنائس وأكبر كنيسة في العالم المسيحي الشرقي وهي كنيسة القديس سمعان العمودي.
ففي هذه المدن تطور بناء الكنائس من الكنيسة المضافة أو غرفة الاستقبال إلى الكنيسة الكاملة «البازيليك أو الكاتدرائية» ونشأت فيها الحياة الديرية (نسبة إلى الدير) التي انتقلت منها إلى أوروبا التي تجمع بين العمل والعبادة كما نشأت حركة القديسين العموديين ومن أبرزهم القديس سمعان العمودي، وقد كانت كنيسته فترة طويلة من أعظم كنائس العالم المسيحي، كما أن أصول فن العمارة الكنسي المعروف بالروماني تعود إلى نماذج قلب اللوزة ودير سمعان.
وسنكمل في المقالات القادمة حديثنا عن المدن المنسية هذه الحضارة التي لا مثيل لها في العالم ولا نقصد من وراء ذلك الوقوف على الأطلال والتباكي على الماضي بل لنؤكد نقطة مهمة جداً أنه وعلى الرغم من الحروب الكثيرة التي وقعت على هذه الأرض الطاهرة فإن سورية لا تزال صامدةً في وجه كل الطامعين بنهب خيرات وطننا الغالي، فكما تجاوزت طوال عمرها المديد جميع الأزمات التي مرت بها ستبقى راسخة وشامخة وعصية على الأزمات التي تعصف بها وسيرحل عنها كل الغزاة يجرون أذيال الخيبة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن