قضايا وآراء

برينتون تارنت بوصفه قديم متجدد

| عبد المنعم علي عيسى

لم تكن نظرة الغرب في أي يوم من الأيام منصفه للشريك الشرقي الذي يقاسمه العيش على هذا الكوكب، ومعاجم «الاستشراق»، المصطلح الذي يذكر في الغرب عادة لتوصيف حال ذلك الشريك، مملوءة بما يدعم هذا القول السابق، فأرسطو فيلسوف اليونان والغرب الأول يقول: «إن لدى الآسيويين عبودية فطرية»، أما ماركس وأنجلز فيقولان: «إن العرب بحاجه لمن يخرجهم من التابوت إلى الحياة»، على حين يعزو المؤرخ الفرنسي تياردو شاردان طبائع الشرقيين السيئة إلى «مناخهم الجغرافي»، لنرى لدى مواطنه ريمون شار إشارة إلى «نزعة الترف الفاجر لدى الغزاة المسلمين في إسبانيا» والتي قال إنها ناجمة عن «وجود نزعة تلذذ بالشر لديهم» وهي «ضرورة فيزيولوجية»، وكذلك ورد في موسوعة لاروس حول الشرق: «ترى سلاطين حمقى ووزراء جهله ورعية أغبياء».
ومن الواضح أن الأسماء التي وردت أعلاه تمثل ذراً فكرية بالنسبة إلى مجتمعاتها، وهي مسؤولة عن تكوين قناعاتها، وبالضرورة فإنها تشكل في سياق عمليه مركبه أرضية تلعب دوراً أساسياً في تكوين الذاكرة الجمعية التي تؤدي بالتأكيد دوراً راهناً ولاحقاً في صناعة القرار السياسي.
لا يمكن بأي شكل من الأشكال اتهام برينتون تارنت، مرتكب جريمة المسجدين في نيوزيلندا 15 آذار الماضي، بأنه مريض نفسياً أو معتوه كما جرت العادة في مثل هذه الحالات، فالرجل قطع على هؤلاء الطريق عبر بيان «الاستبدال الكبير» الذي بدا فيه مالكاً لناصيتي الثقافة والتاريخ في آن معاً على الرغم من صغر سنه، حتى ليصح القول إن ذلك البيان يمثل جنين «منطلقات نظرية» لتيار غربي بدا آخذاً بالتبلور منذ حين، على الرغم من أنه لم يكن غائباً في أي مرحلة من المراحل، وإن كان خاملاً في فترات استكانة الشرق أمام نزعة الهجوم الغربي.
فإن يشم شخص بندقيته بتواريخ تغوص بعيداً وهي ذات دلالات مهمة مثل معركة بلاط الشهداء 722م، ثم يضع اسم تشارلز كارتال الملك الفرنسي الذي هزم المسلمين فيها، فذاك شخص ينتمي إلى «عرق» ثقافي له جذوره التي تغوص عميقاً في نسيج واضح المعالم.
وأن يغوص ذلك الشخص عينه في التاريخ إلى مدى أبعد من ذلك فيذهب إلى الأساطير، فتلك دلالة على أنه يحمل منهجاً معرفياً متكاملاً، وهو يدرك جيداً متلازمة أسطرة الحقائق والوقائع، وأدلجة الأفكار والحقوق التي تخاض على أساسها المعارك الطويلة لنيل المرامي وتحقيق الأهداف الكبرى، والشاهد هو أن تارنت كان قد وعد رفاقه إذا ما مات بأن يلتقيهم في «فالهالا»، وفي شرح ذلك تقول الأسطورة الاسكندنافية أن من ماتوا في المعارك سوف يعيشون بسعادة كبرى في ضيافة «أودين» أب الآلهة جميعاً، الذي سيجمعهم في «قاعة المقتولين» وهذا هو معنى الفالهالا سابقة الذكر، حتى يحين موعد المعركة الكبرى التي ستكون بين الآلهة جميعاً وبين العمالقة، وفيها سيتم القضاء على هؤلاء جميعهم لينبثق من الخراب الذي ستخلفه تلك المعركة الفاصلة عالم جديد أفضل بكثير من العالم الحالي.
كان ذلك في المنهج المعرفي، وإذا ما استدركنا بالقول إن لكل حزب أو تيار أو تنظيم سياسي مستويات ثلاثة يقوم عليها هي: منهج معرفي، خط سياسي، مفهوم للتنظيم، نرى أن الشطر الأول قد تحقق، فيما يمكن تلمس الشطر الثاني، أي الخط السياسي لدى تارنت، الذي يهدف عادة إلى جذب المريدين بعيداً عن تجفاف الفكر نحو إيقاظ الغرائز ودوائر المنفعة على مختلف أنواعها، وفي ذاك نجده يدعو إلى حقن دماء البيض، ويقول «إن مسألة إبعاد الغزاة الموجودين على أراضينا ليست مسألة رفاهية لشعوب هذه الدول بل هي قضية بقاء ومصير»، وهذا رسم لخط سياسي تحدده رؤى واضحة، وفي الشطر الثالث، أي مفهومه للتنظيم، يسأل تارنت نفسه في شريطه المصور إذا ما كان مؤيداً لترامب، ثم يجيب: نعم، فهو رمز لتحديد الهوية البيضاء وهدفنا مشترك، وبذا فهو يضع رسماً لحدود النسيج المؤسس وطبيعة خلاياه وبأي عصبية يعتد.
هذا إعلان لقيام حزب أو تيار سياسي مكتمل الملامح، شمولي وعابر للحدود، وهو يهدف إلى إيقاد النار داخل نسيج متجذر في غرب ما انفك ينظر إلى كل ما هو غير غربي على أنه أحط ثقافة وأقل تحضراً منه بالضرورة، وسطور التاريخ تؤكد أن هذا الأساس هو الذي قامت عليه كل الإمبراطوريات الغربية السابقة كالفرنسية والبريطانية والإسبانية والبرتغالية.
هذه الثقافة هي التي أتاحت استعباد الشعوب واستباحة دمائها بل وإبادتها أحياناً كما حصل للهنود الحمر في أميركا، ومن المؤسف القول إن كل الخطوات والقرارات التي فرضها سياق التطور في الغرب والتي وضعت فيما بعد في سياق السبق الأخلاقي والقيمي لهذا الأخير، كانت كلها ذات جذور نفعية بالدرجة الأولى أو قادت إليها ضرورات الاقتصاد واحتياجاته، بدءاً من الثورة الفرنسية ومبادئها الأربعة عشر الشهيرة والتي لم تتم عامها العاشر حتى غزا إمبراطورها نابليون مصر ثم تمدد نحو بلاد الشام، ليتراجع عنها تحت ضغط حروبه التي أشعلها في قارته، ووصولاً إلى قرار الرئيس الأميركي إبراهام لينكولن الذي يعرف في التاريخ بمحرر العبيد، وعلى الرغم من أنه فعل، إلا أن ذلك ما كان ممكناً أن يحدث لولا أن توصل الغرب في حينها إلى اختراع الحصان البخاري الذي أتاح، أو فرض بشكل أدق، الاستغناء عن أعداد هائلة من «العبيد» الذين لم تعد هناك من حاجة لسواعدهم، فلماذا لا يعطى الأمر إذا صفة الأخلاق ووشم القيم؟
إذا ما كان الغرب ينظر إلى الإسلام على أنه خطر حقيقي يتهدد كيانه فليواجه هذا الخطر تبعاً للأدوات التي يستخدمها، فإذا ما استخدم، ذلك الخطر، السلاح، فليواجه بالسلاح مثلما حدث مع القاعدة وداعش، وإذا ما استخدم، ذلك الخطر أيضاً، الفكر فليواجه بفكر مضاد، ومن المؤكد أنه إذا خرجت الأمور عن هذه المعادلة السابقة فإن التداعيات ستكون خطراً أكبر على الغرب نفسه قبل أن تكون على أي أحد آخر.
يقول المفكر الاشتراكي الفرنسي جاك أتالي: «إن الطريق إلى درء خطر الحرب العالمية الثالثة الوشيكة هو تمخض اشتراكية ديمقراطية جديدة تأخذ على عاتقها تحقيق التوازن بين آليتي السوق والديمقراطية للحيلولة دون قيام «شمولية بضاعية» أو «شمولية أخلاقية»، وتكون مهمتها تدشين يوتوبيا جديدة على قدر طاقة الإنسان، وقادرة على أن تعطي عالم الإنسان الدنيوي معنى في مواجهة اللاهوت الآخروي الذي تتغذى منه الأصوليات بشتى أشكالها».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن