ثقافة وفن

الشام والحب

| إسماعيل مروة

هناك تقبع وحدها لا يدانيها مخلوق، ولا يقترب منها أحد مهما بلغت مرحلة سموه، فهي وحدها يغلبها الأرق، فنحزن لأي مسحة رماد تغطي وجه العابد، وتبدأ تلوب بحثاً عنه في كل الثنايا، لتكتشف كم هي غمرته بذاتها، ولتعرف الشام أنها ولدته ذات يوم غابر، وعند كل صباح تقدر وحدها على أن تجعل دورة أمومته في رحمها تكتمل، مع كل مطلع فجر تختصر الشام تسعة أشهر من أمومتها لكنزها الذي أحبها وأحبته، وتبعد بروحها حبل المشيمة عن رقبته ليخرج حياً معافى. في ذلك الصباح، وفي كل صباح تشعر أنها تلده من جديد، وأن الأشهر التسعة هي لحظة واحدة من مخاض أمومتها المقدس! دارت الدوائر، تكاثفت الغيوم، تناثر الرماد، بحار من دم، وغرتها بقيت محتفظة بطهرها لم تلوث لذاك الذي في البال، ولا يعرف البال سواه، ولا يعرفه سوى البال..
سرير من ألم يغطي كل شيء
وجع يمتد من الرمش إلى الرمش
ونور عين يخبو شيئاً فشيئاً ولا مكان للحياة دونه
وحده هو النور الذي يحيا به وتحيا به
وحده يرسم لوحة لعيني شام، وشعرها المنساب من قاسيون إلى صالحيتها، وإلى عمامة الشيخ الأكبر.
وحده النور يلتقط الصورة ويرسمها، وبلا نور لا لوحة..
وتتلمس شام وجهها
وتدور اليد في الأنحاء المرئية وغير المرئية، ففيها قاسيون يخضع للأنسنة، وفيها النمرود يصبح رحيماً، وفيها الحاقد يصبح متسامحاً، وعلى أرضها يتحول الإنسان من عدو إلى قديس، فيخرج ناشراً حبه للعالم.
في الشام الأمر مختلف..
قد لا تكون الأجمل في نظر نفسها.. لكنها الأجمل في نظر عابدها
قد لا تتلمس قداسة على تربها حين تتأمل ترابها ومساماتها
لكن من يقدسها يشمّ بخوراً ومسكاً وعنبراً
فيها يجتمع عطر السهل والجبل والبحر لتشكل كوناً كاملاً في ذاتها..
هي وحدها لا تبخل
وهي وحدها لا تعطي نفسها مقدارها
لأنها تريد لعاشقها ألا يصطدم بكبريائها فيتوقف
يرتجف.. يرتعد
يعود إلى مكانته
يمارس صلواته
وهي تتلمس رأس العابد فيه
ترقب عينيه تبرقان وتتمتمان بالصلوات
تشهد تبدله وصلواته لينحني بكله بين ذي الكفل وحنانيا
يردد آياته وهو يعبر المغاور
يقطر ماء وضوئه بها وهو يدلف في سراديبها
وحين يغمره العطر فيها منها يطيل سجوده
وتعود الحياة إلى مساماته وعينيه
وتأخذه رعشة حب شام التي ما مثلها
الكره في شام حب لا مثيل له
والحب للشام قداسة وتقديس
بجوع بامتلاء
بسكون
مع رقصة ستي
في كل حال من الأحوال
الحب في الشام تماهٍ
النارنج يصبح حبات في سبحة الصوفي
والكباد عطر تسابيحه
والياسمين خيط يربط الحبات
أبو عبيدة بن الجراح يرقب ويسعد
وبولس الرسول يبارك ويرتل
والباب الشرقي يصبح أبواباً
والراحلون يعودون إلى ذواتهم المتعبة
لا شامة في الشام ترى..!
الشامة للعابد خال يرتسم على الجبين
يحمي السمع والبصر لتخرج إليه
أو لتدلف إليه
وتغمره لتشبع جوعه
وتطهر روحه
وتعيده إليها
في الشام مهاجروها الذين رأوها ملاذاً
وفي الشام صالحية الصالحين الذين أمنوا على أنفسهم
وفي الشام طرحة بيضاء لا تعرف دماراً ولا دماً
تلبسها كل صباح
وملائكة الرب يعتنون بها كل مساء
وحين تشرق الشمس على طرحتها يبدو بياضها
وفي المعبد يردد العابد سيرة شام
إنها العصية.. ما مرّ أحد من هنا
ما مر بها أحد من القذرين
ما مر هولاكو فيها
ولا عرفها تيمور لنك
ولم يستبحها الترك
كلهم بقوا خارج عشقها.. بعيداً عن الخال المختزن
فيه زيت حوت بحرها
وفيه عوسج جبلها
وفيه كبّاد بحراتها
لم يصلوا إلى الجوهر.. فما مرّوا بها
وما عرفوا ريق مائها
وما وصلوا بشفاههم المترهلة إلى المكنون بها
وحين تمسي لا يقر بها إنس ولا جان
وتبقى الشام تنزّ عطراً لا كالعطر
لم يشمّ ريحه سواه
ذرات ترابها سواك له ولروحه
وثنيات قاسيونها تلده كل لحظة
لرحمها الذي لم يلد غير حب
وكل يوم تلد روحها
وحدها لا تحتاج الأشهر التسعة
كل يوم تكتمل دورة مخاض الحب
فتخرج شام من شام
ويبدو نور من شام
وما بين شامة ونور تتجدد الحياة
وينداح الطوفان من قاسيونها
المطر غزير
حين يسيل الماء يتشكل الطوفان
لا نوح هنا ينادي
ولا الزوج تأبى
ولا الابن يرفض أن يرافق أباه
ينداح ولا شيء يبقى
وحين تنقشع السماء تتكشف الشام
طاهرة.. لا شيء على أرضها سوى العبق
الشام والحب..! الشام حب ولا شيء سواه، هو وحده حياتها، وإن تهيأ للآخرين بأنها تعاني، فهي لا تعرف مستحيلاً، بأمرها يسير الحب، وبأمر حبها تتجدد الحياة كل لحظة، فلا هي تشيخ، ولا هو الذي يتعشقها يتعب من التقام هالة من نور تحيط بالقبة المثال التي تغطي عمامة الشيخ الأكبر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن