الأولى

قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق

| بنت الأرض

بعد حربين عالميتين اثنتين وحرب باردة وحروب الولايات المتحدة على فيتنام وكمبوديا ودول أميركا الجنوبية ومن ثمّ حربها على أفغانستان والعراق وليبيا واليمن، ودعم ما سموه الربيع العربيّ وقبلها دعمها المستمر لحرب الإبادة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، يبدو أن الإستراتيجيات الاستعمارية الأميركية قد أخذت منحىً مختلفاً اليوم في دأبها المتواصل للسيطرة على ثروات وإرادة ومصائر الشعوب. فقد اكتشفوا، ربما، ونتيجة التجارب أن ما يكسر إرادة الشعوب في النهاية هو لقمة عيشها وأمان وحياة أولادها، تماماً كما اكتشفوا بعد طول عناء أن الجغرافيا والتاريخ هما العاملان الحاسمان في العلاقات الدولية، وأنّ الثروات الباطنية في البلدان الأخرى هي الأهمّ في تحقيق ازدهار اقتصادها، كما أن الزراعة وتأمين المحاصيل هي الأهمّ في استقلال القرار الوطني. ومن هذا المنطلق بدأت الولايات المتحدة باتباع سياسة ما سمته العقوبات والحصار الاقتصادي على الدول التي لم تستطع كسر إرادتها من خلال الحروب السياسية والعسكرية والإعلامية، واستخدمت من أجل ذلك أعتى أدواتها وأعادت التفاتتها مؤخراً إلى الجغرافيا لتركّز على حديقتها الخلفية ألا وهي أميركا الجنوبية. وفي مراجعة سريعة لما حدث في تلك القارة في العشرين عاماً الماضية نرى أن تلك القارة قد افتتحت القرن الحادي والعشرين باستعادة الروح النضالية إلى فنزويلا والبرازيل والأرجنتين وبوليفيا، لتصبح هذه الدول الأربع امتداداً إلى كوبا الصامدة منذ عقود في وجه أبشع أنواع العقوبات الأميركية التي تمّ فرضها على أي بلد في العالم. فقد ظهر الشاب البوليفاري هوغو شافيز في فنزويلا وسيلفا دي لولا في البرازيل وكريستينا كوشنر في الأرجنتين وإيفو مورا ليس في بوليفيا وترأس كل منهم بلاده، وبدت تلك القارة زاهية باستعادة إرثها النضالي ضد أنواع الاستعمار الذي اغتصبها على مدى قرون من الاستعمار الإسباني إلى البريطاني وإلى الأميركي. وأصبح هؤلاء القادة أنموذجاً للدول والشعوب الطامحة إلى التحرر والاستقلال الحقيقي وتقرير المصير، وبدأت هذه الدول تنسج علاقات مميزة مع دول في آسيا وإفريقيا تصبّ جميعها في بوتقة مقاومة الإمبريالية والاستعمار. وبما أن الغرب يدرك جيداً أن وجود قادة موثوقين مع إرادة شعبية صلبة يمكن أن يغيّر الواقع السياسي مرة وإلى الأبد، فقد بدأ هذا الغرب بتشويه صورة القادة وكيل تهم الفساد ضد الرئيس البرازيلي الشعبي سيلفادي لولا والرئيسة الأرجنتينية القديرة كريستينا كوشنر، على حين وبغفلة من الزمن أصيب القائد شافيز بمرض عضال انتهى بوفاته. واليوم ونحن نشهد التحولات السياسية في البرازيل والأرجنتين ومحاولات تقويض السياسة البوليفارية في فنزويلا، ندرك أبعاد الاستهداف ومقاصد التهم التي وجّهت إلى الزعماء والرؤساء لتقويض مصداقيتهم بأعين شعوبهم واستبدالهم بمن هو أكثر طاعة للإرادة الأميركية في إدارة شؤون البلاد. ولذلك فقد شهدنا أن السياسيين الذين حلوا مكان القادة الوطنيين عادوا بمعظمهم إلى بيت الطاعة الأميركي مع كلّ ما يفيد هذا من استغلال لثرواتهم الطبيعية واستثمار لمواقف بلدانهم لمصلحة الإمبريالية وأعوانها الصهاينة في منطقتنا، وكلّ من ينحو ذلك المنحى. ومن لم يستجب كما هو حال فنزويلا فتنزل الولايات المتحدة بهم أشدّ العقوبات الاقتصادية، والتي هي في واقع الحال ليست عقوبات فقط، وإنّما جرائم حرب جماعية تُرتَكَبُ بحقّ شعوب برمّتها من أجل تغيير إرادتها السياسية، وبالنتيجة تغيير نظام الحكم في بلدانها بما يخدم المصالح الإمبريالية بعيداً من مصالح هذه الشعوب ذاتها. والأسلوب الأميركي الجديد في العقوبات لا يقيم وزناً للأمم المتحدة ولا للمواثيق الدولية ولا للأسس والأخلاق المتبعة والمتعارف عليها، بل تصدر الإدارة الأميركية العقوبات خارج إطار الشرعية الدولية، ومن ثمّ تعاقب أي بلد أو طرف لا يلتزم بهذه العقوبات اللاشرعية أصلاً، التي يجب أن تعتبر جرائم حرب جماعية وجرائم إبادة بحق الإنسانية، فقد عاش أهل غزة ومنذ سنوات تحت هذه العقوبات الظالمة من احتلال غاشم وظالم والعالم كلّه يشير إلى «حصار غزة»، على حين الواقع هو أن غزة تعاني جريمة عقوبة جماعية وجريمة حرب فُرِضَت على شعب أعزل يعيش على أرضه وأرض آبائه وأجداده. وفي سورية وبعد سنوات ثمان من حرب إرهابية كونية على الشعب السوري اتخذت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إجراءات قسرية أحادية الجانب تمنع على الشعب السوري علاقات تبادل تجارية طبيعية مع الدول الأخرى، لا بل تعاقب أي دولة ترغب في استمرار علاقات تجارية طبيعية مع سورية، وبهذا فقد وضعت الولايات المتحدة نفسها فوق كلّ القوانين والشرائع الدولية، وفرضت حكمها على الشعب السوري وتلزم الدول الأخرى باتباع نهج عقوباتها اللاقانونية واللاشرعية على الشعب السوري. والأمر ذاته والسيناريو نفسه يتكرر اليوم في فنزويلا، فإمّا أن تنصّب الولايات المتحدة الحكّام الذين يمتثلون لإرادتها في فنزويلا ويسمحون لها بنهب ثروات فنزويلا من غاز ونفط وذهب من دون مقابل، وإمّا أن تلحق أقسى الإجراءات الاقتصادية والتجارية وحركة النقل بالشعب الفنزويلي برمته إلى أن تتمكّن من كسر إرادته من خلال عقوبات مجرمة وحصار ظالم لم يرتكب الشعب الفنزويلي إثماً أو خطأً حتى يستحقه. وبهذا فقد انتقلت الإمبريالية من التعاون مع دول العالم على تنفيذ الإرادة الدولية من خلال مجلس الأمن والجمعية العامة والأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها إلى وضع وضعت نفسها به فوق كلّ القوانين الدولية والأسس التي توصل إليها العالم بعد حربين عالميتين لتشنّ حرباً قذرة ضد لقمة الشعوب ولتتسبب في الجوع والمرض في مناطق مختلفة من العالم كأداة لكسر إرادة الشعوب السياسية وتحويلها عن مسارها وتبديل نظام الحكم في بلدانها. وبما أن الولايات المتحدة هي التي تفرض هذه العقوبات، فهي التي تطلق عليها أسماء تخفف من وطأة الجريمة المرتكبة سواء في سورية أم فنزويلا أو كوبا أو ليبيا أو اليمن، لأن حقيقة العقوبات هي أنها جريمة حرب بحقّ الإنسانية، وأنّها عقوبات لشعوب بأسرها يحاسب عليها القانون الدولي إذا كان مثل هذا القانون مازال قائماً أو سارياً، أي إن الولايات المتحدة وبالتوازي مع انسحابها من التزاماتها الدولية فرضت إستراتيجيات جديدة للهيمنة على الشعوب ومصادر الثروات، إستراتيجيات تعاقب من خلالها الشعوب أشدّ العقوبات الاقتصادية والمالية والمعيشية، إذا لم تمتثل لإرادتها وتختار الحكّام الذين ترتئيهم الولايات المتحدة، أو ليس هذا هو الاستعمار الجديد الذي يمارس قطع الأرزاق بعد أن مارس قطع الأعناق، ولم يتمكن من فرض إرادته وسيطرته؟ أو لا يوجب هذا اجتراح إستراتيجيات جديدة على المستوى الدولي لوقف هذا الإجرام غير المسبوق بحقّ الشعوب في مختلف دولها؟ لاشكّ أنّنا نعيش مرحلة دولية جديدة محفوفة بالمخاطر تتطلب اليقظة وإعادة النظر وإعادة قراءة لما يرتكبون ووضع الحلول الخلاقة على المستويين الإقليمي والدولي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن