ثقافة وفن

المدن المنسية.. مدن متألقة في ذاكرة التاريخ السوري «2» … باقرحا من القرن الثاني الميلادي تضم معبداً رومانياً أثرياً وكنائس قديمة

| المهندس علي المبيض

يعتبر علماء الآثار على اختلاف انتماءاتهم وجنسياتهم أن سورية كانت مركزاً لأقدم الحضارات على وجه الأرض وأنه قامت على أرضها أعرق وأهم الحضارات في التاريخ الإنساني على الإطلاق ومنها انطلقت العلوم والمعارف الإنسانية إلى أرجاء المعمورة، لذلك فإننا حين نستعرض في مقالاتنا الأسبوعية تاريخ سورية ونسلط الضوء على بعض أوابدها ومعالمها التاريخية فإننا نتحدث عن تاريخ موجز للإنسان تشمل معلوماته ومعارفه العلمية والفلسفية ومعتقداته الدينية وسلوكياته، وحري بنا أن نقرأ تاريخنا ونفهمه ونستفيد من عبره لأن الإنسان لا يصنع تاريخه بل التاريخ هو الذي يصنع الإنسان ومستقبله وما يقال عن الفرد يقال عن الشعوب والدول.
وكنا في المقالات السابقة قد بدأنا الحديث عن المدن المنسية التي تتكون من مجموعة مدن وقرى أثرية سورية تقع شمال غرب سورية وتمتد على مساحة قدرها نحو 5600 كم2 تقريباً ضمن الحدود الإدارية لمحافظتي حلب وإدلب، وذكرنا سابقاً أنه أطلق عليها اسم المدن المنسية أو الميتة لخلوها من السكان ويعود بناؤها إلى الفترة الممتدة بين القرنين الأول والسابع الميلادي وحتى القرن العاشر، ونستكمل في مقالتنا لهذا اليوم الحديث عن المدن المنسية.
موقع النبي هوري (سيرهوس) وهو أطلال مدينة أثرية صغيرة تقع شرق مدينة عفرين بنحو 45 كم وتبعد عن حلب مسافة 70 كم باتجاه الشمال الغربي على ضفاف نهر الصابون في موقع جغرافي محصن طبيعياً، ومؤلف من هضبتين مغطى بأشجار الزيتون، وهو من أهم المواقع السياحية والتاريخية، أما سبب التسمية فيعود إلى وجود دير قديم في المنطقة يحمل الاسم نفسه وكان موقع النبي هوري في العصر الهلنستي يعدّ من المدن السورية المهمة، احتلها الرومان عام 64 قبل الميلاد ورممت أسوارها في عصر الإمبراطور الروماني جوستنيان استولى عليها الصليبيون خلال الغزو الصليبي لسورية وقام نور الدين زنكي بتحريرها من الصليبيين وبنى قلعتها وزاد من تحصيناتها، يحيط بالمدينة بالكامل سور يعود للعصر البيزنطي وهو مبني فوق الأساسات الهلنستية ويحوي السور أربع بوابات من الجهات الأربع ومن أهم المعالم التاريخية فيها:
المدفن الروماني ويتوضّع في الجهة الجنوبية من الموقع وهو ينسب إلى أحد رجال الدين المسيحي اسمه حوري أقام فيه وتحول الاسم مع مرور الوقت إلى هوري ويعرف حالياً المدفن من أهالي المنطقة بضريح النبي هوري.
المدرج الروماني يقع في وسط المدينة ويعود تاريخه للقرن الثاني الميلادي يبلغ قطره 120م يتكون من منصة مسرح كانت تقام فيه مسرحيات وحفلات غنائية يبلغ طوله 48 م ويضم المدرج 24 صفاً من المقاعد الحجرية.
ويشتهر موقع النبي هوري بالجسور الرومانية ويعود تاريخها إلى القرن الثاني الميلادي ولم يبق منها إلا جسران رومانيان وحيدان منذ تلك الحقبة يقعان على نهر الصابون، يبلغ طول الجسر الأول 120 م وإلى الشرق منه يقع الجسر الثاني ويبلغ طوله 92 م.
كما تحوي المدينة برجاً رومانياً وأسواقاً ومساكن وبقايا قلعة عربية وكنيستين شمال المدرج، وفي الجهة الجنوبية للسور قوس تترابيل وهو يتصل بالباب الجنوبي.
جبل باريشا يقع في منطقة حارم وهو من المواقع الغنية بالمعالم التاريخية ويضم العديد من المواقع الأثرية من أشهرها: دير سيتا وتعود آثاره إلى الفترة بين القرن الأول والسادس الميلادي، من أهم معالمها التاريخية دار كبيرة لها طراز معماري جميل موحد مع الطراز المعماري لجدار التصوينة وتزين واجهاتها زخارف جميلة وتعتبر إحدى أقدم منشآت الاستثمار الزراعي يوجد فيها ساحة ومعصرة زيتون، كما تحوي المنطقة تجمع عدة مبان سكنية وكنائس يعود تاريخها للقرنين الثالث والرابع الميلادي.
قرية باريشا وهي أحد المواقع المهمة في المدن المنسية تقع في جبل باريشا على بعد 11 كم جنوب شرق حارم وتسميتها تعني بيت الرأس ومن يزر القرية يدرك سبب التسمية إذ إنها تقع على قمة جبل باريشا وقرية باريشا، قديمة إذ إنها أقيمت على أنقاض آثار يعود تاريخها إلى القرن الأول الميلادي.
ويضم جبل باريشا موقعاً مهماً اسمه قصر البنات ويشتمل على أبنية أثرية متناثرة مازالت بحالة جيدة وفيه كنيسة كبيرة من الطراز البازيليكي يفصل بين أبهائها سبعة أقواس مع أعمدتها ورواق يؤدي إلى مجموعة مدافن تحت الأرض وفوقها بناء مؤلف من ثلاثة طوابق ودير في الغرب مربع الشكل يحوي صفين من الأعمدة وبرجاً شاهقاً مكوناً من ستة طوابق أبعاد كل منها 8×6 م ويعود تاريخه إلى القرن الخامس الميلادي ونشير بهذه المناسبة إلى وجود أكثر من موقع أثري يطلق عليه اسم قصر البنات.
باقرحا وهي مدينة مهمة من المدن المنسية يعود تاريخها للقرن الثاني الميلادي، تضم معبداً كبيراً رومانياً يعود للقرن الثاني للميلاد، كما تحتوي على بقايا آثار لكنيستين تعود إحداها إلى القرن الخامس والثانية إلى القرن السادس، وأعداداً كبيرة من المعاصر المحفورة في الصخر، ومنازل مكونة من طابقين وتشتهر أوابد هذا الموقع بأنها مشيدة من كتل حجرية كبيرة من دون استخدام الملاط وتتميز بزخارف حجرية مميزة.
كفر دريان وهي إحدى القرى المختلطة مع القديمة ومازال سكانها يتوارثون التحدث باللغة الآرامية ورد ذكرها في الوثائق السريانية والعثمانية ما يدل على استمرار الحياة فيها عبر مختلف العصور ولم تنقطع الحياة فيها، تضم المدينة معبدين وثنيين يعودان للقرن الثاني الميلادي يطلق أبناء المجتمع المحلي على المعبد الوثني اسم عشترة وهو اسم الآلهة القديمة عشتروت / عشتار ويدل توارث هذا الاسم القديم والذي يعود إلى ما قبل الميلاد على قدم القرية يضم الموقع ثلاث كنائس اندثرت معالمها من الطراز البازيليكي: الأولى في موقع الجامع الحالي أعيد استعمال ساكف باب الكنيسة في باب الجامع وقد كتب عليه كتابة يونانية ذات زخارف جميلة وترجمتها كما يلي «بعون اللـه وبهمة قوزما ويعقوب عام 529 م» كما تم اكتشاف كتابة سريانية على عتبة الباب الداخلي للجامع، أما الكنيسة الثانية فتقع شرق الأولى ولم يبق فيها غير الواجهة الغربية والباب الكبير المزين بالوردات الكبيرة وحرفي ألفا وأوميغا، ويعود تاريخها إلى القرن الخامس الميلادي وفي شمال شرق الموقع يوجد بقايا الكنيسة الثالثة وهي من الطراز البازيليكي أيضاً ويعود تاريخها إلى القرن السادس الميلادي وتحوي في واجهتها برجين ومن معالمها المتبقية أيضاً دير مار يوحنان العمودي ويقع شرق القرية وكنيسته يعود تاريخها إلى النصف الثاني من القرن السادس الميلادي ولم يبق في الدير غير عمود القديس مار يوحنان العمودي الذي يبلغ ارتفاعه نحو 9 م وقطره 1 م وله قاعدة مرتفعة ولا يحوي العمود أي رموز أو رسوم.
قرية كرك بيزة إحدى المدن المنسية المهمة تبعد عن قرية قلب اللوزة مسافة 11 كم من الجهة الشمالية وتقع في جبل الأعلى على مرتفع يشرف على سهل الشلف وقرية حتان ويرجع بعض الباحثين إلى أن سبب تسمية كرك بيزة يعود إلى أن الاسم مشتق من كلمتين سريانيتين: كرك وتعني الحصن وبيزو وتعني البازي وذلك لأن قرية كرك بيزة مرتفعة ومشرفة على السهول وتشبه البازي، تعتبر قرية كرك بيزة منطقة أثرية قديمة تضم مباني جميلة ومعاصر زيتون وخزان ماء منحوتاً في الصخر ونستدل من النقوش والزخارف الموجودة على بقايا أبنيتها الجميلة القائمة أن أهلها كانوا يتمتعون بمستوى ثقافي وفني جيد، وتدل أيضاً على رفاهية ومستوى مادي واجتماعي عال، ومن أهم آثار قرية كرك بيزة كنيسة قديمة تقع في شمال القرية ولعلها أول كنيسة بيزنطية بنيت في سورية ويعود تاريخ بنائها إلى القرن الرابع الميلادي ويأتي ترتيبها بذلك بعد كنيسة دورا أوروبوس على نهر الفرات والتي تعتبر من أقدم الكنائس في العالم ولا تزال بحالة سليمة ماعدا السقف، ولا شك بأن الطراز المعماري وأسلوب بناء هذه الكنيسة كانا النواة الأولى التي أسست لفنون هندسة الكنائس العظيمة في هذه المنطقة في القرن الخامس الميلادي وما بعده.
وما دمنا نستعرض تلك المناطق نجد أنه لابد أن نسلط الضوء على مدينة جميلة وهي مدينة أريحا وهي مدينة تاريخية موغلة في القدم يعود تاريخها إلى الألف الثالث قبل الميلاد ذكرت في الكثير من المخطوطات الأثرية واسم أريحا آرامي سوري قديم يعني الأريج أو رائحة الزهور تمتاز أريحا بأنها غنية بآثارها التي تعود لحقب تاريخية متعددة من أهمها تل أريحا الأثري كانت بيوتها محفورة تحت الأرض في العصر الروماني، ويحيط بها سور ضخم كما تحوي مباني مختلفة الوظائف من العصر الروماني والبيزنطي والمملوكي وأسواقاً تجارية مسقوفة بقبب وقنوات مائية رومانية وخزانات ومدافن أثرية، إضافة لذلك فهي تحوي بساتين الزيتون والكرز والتين والمحلب وتتمتع بالمناظر الطبيعية الخلابة والهواء النقي وهي تمتلك عدة مقومات سياحية مهمة تصلح لأن تكون مركز اصطياف تقام فيه مشاريع استثمارية وتنموية يوفر العديد من فرص العمل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن