الأولى

معك الأستاذ عبدو.. العلماني

| فرنسا ـ فراس عزيز ديب

عبدو شابٌ لطيف ومهذب، تخرجَ في كليةِ الهندسةِ الكهربائية وتم تعيينهُ في أحد المعامل بوظيفةِ «لاشغلة ولا عملة»، لكون البطالة المقنعة تأكل القطاع العام.
كانت الأيام الأولى لعبدو في المعمل صعبة لكونه لا يعرف أحداً حتى بدأ بنسجِ علاقاتٍ مع العمال، فكان يزهو عندما ينادونهُ «أستاذ» تحديداً أنه أمرٌ لم يعتده بل كانوا يقدمونه لمن لا يعرفهُ بـ«الأستاذ عبدو». يوماً ما شاءَ القدر أن يكون عبدو وحده في غرفةِ رئاسة القسم عندما رن هاتف المكتب، على الطرف الآخر كان مدير المعمل الذي التبس عليهِ الصوت لكونه لم يعتَده فسأله من معي؟
فأجاب عبدو: أنا «الأستاذ عبدو» المهندس الجديد!
انفجر المدير بالضحِك إذ ليست من عادةِ أحد أن يعرِّف عن نفسهِ بالقول «أنا الأستاذ فلان»، فالأستذة صفة يمنحها الآخرون لك ولستَ أنت من تُطلقها على نفسك، ليصبح بعدها «الأستاذ عبدو» حديثَ المعمل والمعامل المجاورة.
يبدو أن قصة عبدو تتكرر أمامنا باتجاهاتٍ عدة، فهذا يوصِّف صفحته الشخصية على مواقعِ التواصل الاجتماعي مثلاً بأنها صفحة «الأديب والشاعر»، وأولئك يوصِّفون اجتماعاتهم باجتماعات «النخب المثقفة»، أو تحالفاتهم بتحالف «الشخصيات المتنورة»، لا أدري ما هذه النرجسية التي يعيشها البعض عندما يمنح لنفسهِ ألقاباً تجعلهُ صفوةً عن باقي فئات المجتمع لترسو فينا السفينة عند التوصيف الأكثر «موديرن».. «أنا علماني».
إذا ما استثنينا مصطلَح البطاقة الذكية تبدو كلمة علمانية اليوم هي الأكثر تداولاً في نقاشات السوريين، نقاشات وسجالات تَتمحور حول من يعتنِق العلمانية أو يتأبَّطها ويتاجر بها، ففي اليوم الواحِد مثلاً عليكَ أن تقرأ عشرات التعاريف لهذهِ العلمانية، لكن ما يلفت النظر وعلى طريقة «أنا الأستاذ عبدو» لابد لكل من يناقش أن يبدأ حديثه بعبارةِ «أنا علماني» كبطاقةِ تعريفٍ توحي بالثقة لمحاورهِ، لكن هل يجوز فعلياً القول «أنا علماني»؟
من تجربتي الشخصية لا أذكر يوماً أني حاورتُ فرنسياً أو ناطقاً بالفرنسية وقال عن نفسهِ «أنا علماني»، فالعلمانية مصطلح ورد في المادة الأولى من الدستور الفرنسي لعام 1958، تلك المادة التي عرَّفت الجمهورية الفرنسية بأنها علمانية، هذا يقودنا تدريجياً لفكرةِ أن المواطن يعيش ضمن دولةٍ تضمن قوانينها المساواة للجميع ولا يعني هذا الكلام أن الدستور الفرنسي جعلَ المواطن الفرنسي «علمانياً»!
النقطة الثانية أن العلمانية عملياً ليست فصلاً كاملاً للدين عن الدولة كما يُشاع، بقدر ما هي إبعاد نفوذ رجال الدين عن قرار الدولة، ولكي تتضح الصورة أكثر لنعطِ هذا المثال: إذا كانت فرنسا بعلمانيتها فصلت الدين عن الدولة فلماذا هناك عُطل رسمية تمتد لأسابيع بمناسبة أعياد الفصح والميلاد، ولا يوجد ما يشابهها في الأعياد الإسلامية واليهودية؟
النقطة الأخيرة وهي المتعلقة بنقطة تطوير المجتمعات لكسرِ الحواجز بين مختلف الأطياف، فليكن واضحاً لكلِّ المنبهرين بأن العلمانية ليسَت قيمة تدرَّس في المدارس، فالذي أقنع الفرنسي أن يبتسم بوجهِ امرأة محجبة ليسَ فصل الدين عن الدولة كما يتوهم البعض، بل هي القوانين الصارمة التي تُطبَّق على الجميع انطلاقاً من الحقوق والواجبات فتجعل الجميع يحترم قيم الجميع، على هذا الأساس لا يوجد شيء مثلاً اسمه تحالفات لعلمانيين لأنهم أساساً ليسوا موجودين كتصنيف سياسي أو اجتماعي، بل على العكس هناك أحزاب بمرجعياتٍ دينية تمارس الحياة السياسية كالحزب الديمقراطي المسيحي.
بالتأكيد أننا كسوريين غيارى على وطنِنا نسعى لأن تكون الدروس المستفادة من هذه الحرب هي المدماك الذي سنبني عليه سورية المتجددة، لكن هذا الأمر يجب ألا يتم عبرَ خلط المفاهيم وتسويق المغالطات، فمن يردِّد أن «العلمانية هي الحل» فهو من دون أن يدري يقدِّم خدمة جلية لمن يقول «الإسلام هو الحل»، ماذا لو فكرتم للحظة بأن السوادَ الأَعظم من السوريين يرى في كلا الطرفين وجهينِ لمصيبةٍ واحدة؟
لا تتاجروا بالعلمانية، فنحن كمواطنينَ بسطاء لا يعنينا بماذا تقدّمون أنفسكم إذا كان هناك قوانين تنظم العلاقة بيننا، ألم نقُل لكم يوماً إن المواطن السوري يعيش الحالة العلمانية بالفطرة لا بالشعارات؟ فلماذا الإصرار على أدلجتها؟ دعونا نر العلمانية بتصرفاتكم لا بشعاراتكم، على الأقل كما رأتها أجاثا كريستي قبل مئة عام عندما لفتَ نظرها كيف يعيش المواطنون السوريون بمختلف معتقداتِهم، إلا إن كان أحد أجداد صديقنا عبدو قد ضللها عندما مرّ مصادفة من أمام فندق بارون الذي نزلت فيه وسألتهُ عن اسمه فأجاب:
معك الأستاذ عبدو.. العلماني.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن