«لا أعرفُ شيئاً عن ويكيليكس، هذا ليس شأني»، تغريدةٌ أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد ساعاتٍ من نبأ اعتقال مؤسس موقع ويكيليكس جوليان أسانج عقب إنهاء السفارة الأكوادورية في لندن لحقّ اللجوء الممنوح إليه منذُ سبع سنوات.
على غير العادة، يبدو دونالد ترامب هذه المرة محقّاً بكلامه فهو عملياً ليس من البطانة الأميركية الحاكمة أو من الشخصيات السياسية التي تدرجت في المناصب كأسلافه وصولاً إلى منصب الرئيس، تلك الشخصيات التي كانت مادةً أولية للكثير من التسريبات التي نشرها الموقع بما تضمنته أخبارهم من فضائح أو حتى أسرار مرتبطة بالأمن القومي الأميركي، بل على العكس هو كان أحد المتهمين بتمويل المنظمة التي تدير موقع «ويكيليكس»، لتبدو صورة اعتقال أسانج أشبه بانتصارٍ حققتهُ الولايات المتحدة على من ترى فيه سبباً لفضح الجانب الأسود من إمبراطوريتها.
منذ انطلاق الموقع وبدئه بنشر ما يقع بين يديه من وثائق رسمية كان السؤال المطروح عن صاحب المصلحة الحقيقية بكل ما يجري، هناك من ذهب إلى فرضية أن ما جرى عملياً هو اختراق «أعداء» أميركا لمنظومتها الأمنية والمعلوماتية المعقّدة، فرضيةٌ كثرت معها السيناريوهات المحتملة، فهذا يقول: فعلوها الروس والثاني يقول: إنه التطور التقني الإيراني ليعيش من يرى بالسياسات الأميركية كمصدرٍ لكلّ الشرور نشوةً ما زال ثملاً بها حتى الآن، كيف لا وأسرار الشيطان الأكبر بأغلبيتها أصبحت على الطاولة؟
أما الفرضية الثانية فذهبت نحو الشكّ بالهدف من التسريبات وليس التسريبات ذات نفسها، باعتبار أن ما نُشر من وثائق كان صحيحاً، هذه الفرضية للأسف لم تأخذ حقها ليس فقط لأن من آمنوا بها قلّة، بل لأنها تُغرد خارج سرب النشوة التي اعترت كارهي أميركا وعملائها.
اليوم وبعد اعتقال أسانج وما بدا خلال هذه السنوات إغلاقاً أميركياً مُحكماً لمسار الحدث يصعُب معه التنبؤ أو الاستقراء: تُرى أي الفرضيتين تبدو الأصدق؟
لكي نتمكن من ترجيح إحدى الفرضيتين لا بُد أولاً من الإجابة عن هذه التساؤلات التالية:
أولاً: هل حقاً أن الولايات المتحدة أُحرجت من تسريبات الويكيليكس؟
ربما الإجابة هنا بسيطة، فالحرج الذي أصاب الولايات المتحدة من تسريبات الويكيلكس يوازي مقدار الحرج الذي يصيب بنيامين نتنياهو عندما نصفهُ بالقاتل، وهو الحرج ذاته الذي أصاب رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان عندما أثبتت صوراً جوية شراء النظام التركي لصهاريج النفط من داعش.
إن الوثائق بأغلبيتها كانت من نوع «إثبات المُثبت» لا أكثر، فأن تتحدث الويكيليكس عن جرائم قتل المدنيين في العراق وأفغانستان مثلاً فهو تحصيل حاصلٍ بعد نشر صور لتعذيب المدنيين في سجن أبو غريب وغيره وهم عراة كمادةٍ للترهيب من جهة، والمرح من جهةٍ ثانية، أما تلك التي تحدثت عن قيام الولايات المتحدة بدعم معارضةٍ هنا أو هناك فهي أشبه بتفسير الماء أنه اجتماع عنصري الهيدروجين والأوكسجين، فمن لا يعرف أن الولايات المتحدة عملياً دعمت كل المعارضات للبلدان التي تضعها على لوائح الدول المارقة؟ هذه المعارضة باتت تتباهى بعلاقاتها مع «إسرائيل» فما المشكلة إن دعمتها الولايات المتحدة؟
أما بما يخص ما يسمونه «أسرار الأمن القومي»، فهل سمع أحد عن مسؤولٍ أميركي ما تمت محاكمته أو إقالته بسبب الويكيليكس بعيداً عن «الاستقالات الهوليودية»؟
لكن في المقابل لننظر إلى تأثير ما يقال عن تسريباتٍ لبضع رسائل من البريد الإلكتروني الخاص بالمرشحة السابقة للرئاسة الأميركية هيلاري كلينتون، تلك الرسائل كانت ولا تزال تردداتها تضربُ في الحياة السياسية الأميركية، بل إن هناك من لا يزال يربط بين نجاح دونالد ترامب بالرئاسة وهذه التسريبات وعلى هذا الأساس يتم اتهام الروس بالتدخل في الانتخابات الأميركية، فليس من المعقول أن ملايين الرسائل المُسربة لم تهز أميركا أو الأميركيين، على حين بضع رسائل هزت قرار الناخب الأميركي، إذاً المشكلة هي بطبيعة هذه الرسائل التي جرى تضخيمها إعلامياً، وبمعنى أدق: إن الترويج لفكرة «حرج» ما أصاب أميركا من هذه التسريبات، هو تسويق غير مباشر لفرضية أن أميركا أساساً تخجل من سياساتها وهو ليس بصحيح.
ثانياً: هل هي مصادفة أن يتزامن الويكيليكس مع بداية ربيع الدم العربي؟
من اللافت للنظر أن ما تم تسريبه عبر الويكيليكس مع انطلاقة الربيع العربي بدا وكأنهُ حاجة ماسة لمن يديرون هذا الربيع المتنقل، كان أشبه بصبّ الزيت على النار ساهم لحدٍّ بعيد في تجييش الشارع أكثر، فكان المواطن العربي يقرأ في هذه الفضائح التي تتحدث عن فساد ولاة أمره دون أن يسأل نفسهُ ما الجديد؟ لعل الجديد الوحيد أن هذه المعلومات كانت في غالبها رسائل صادرة من السفارات الأميركية في هذه الدول، أي إن الولايات المتحدة أعطت المواطن ختم مصداقية لتبرير ردود فعله القادمة.
كانت قناة آل ثاني القطرية هي المنبر الأهم عربياً، فبدأت ببثّ الوثائق بطريقةٍ انتقائية تبرّئ من تشاء وتدين من تشاء، تحدثت مثلاً عن فساد النظامين الليبي والمصري كيف لا وهما كانا على رادار التغيير؟ استفاضت بنشر وثائق تثبت بيع حركة فتح لفلسطين والتنسيق الأمني بينها وبين «إسرائيل»، كيف لا وتعميق الخلاف الفلسطيني الفلسطيني هو أمرٌ جوهري لا تراجع عنه؟
أما تلك الوسائل الإعلامية التي تتحفنا بقربها من «محور المقاومة» فكانت مثلاً تطربنا بوثائق عن «الفكر المذهبي لآل سعود»، أو ارتباط المهاتما سمير جعجع بالمشروع الأميركي، يا لهُ من اكتشاف!
حتى أن هذه الوثائق لم توفر «أبناء المحور الواحد» عندما نشرت إحدى هذه الصحف وثيقة ينقل فيها السفير الأميركي في بيروت امتعاض وزير الصحة اللبناني خلال حرب تموز والمنتمي لحركة أمل «محمد جواد خليفة» من تصرفات حزب الله، أي إن الآخر رمى للجميع مادةً جديدة قادرة على أن تجعل التناحر في المنطقة بأعلى درجاته، بل باتت القضية نوعاً تصفية حسابات شخصية لحساباتٍ ضيقة وقع في مطبها من يظنون أنهم يحملون الفكر ذاته، وبعد ذلك هناك من يحدثنا عن حرج الولايات المتحدة من الويكيليكس، من دون النظر لما حققته من إنجازاتٍ عبر هذه الهمروجة، ألا تذكرون يوماً من أتحفنا بالبنود الأربعة عشر لخروج سورية من أزمتها!
ثالثاً: هل كانت الولايات المتحدة قادرة أن تمنع إلكترونياً نشر هذه الوثائق؟
قبل أيام صوّت مجلس الدوما الروسي على مشروعٍ لإنشاء «شبكة إنترنت ذات سيادة»، قادرة أن تعمل بمعزلٍ عن الشبكة العالمية، يبدو الهدف الحقيقي منها وعلى الطريقة الصينية هو رفع القدرة مستقبلاً على ردّ أي هجوم محتمل للأميركيين في مجال الأمن المعلوماتي، هذا الحدث يأتي بعد ما يقرب من الخمسين عاماً من قيام الأميركيين بوضع شبكة الإنترنت الأولى التي تربط عدة حواسب بين الجامعات ومراكز الأبحاث لخدمة الجيش الأميركي وما تبعه من تطوراتٍ حتى وصلنا إلى الشبكة الحالية التي تستحوذ الولايات المتحدة على معظم خوادمها الرئيسية ومحرك بحثها الأهم «غوغل».
ما يمكن قوله ببساطة إننا لا نتعامل مع دولةٍ مبتدئة في الأمن المعلوماتي حتى يتم اختراقها بهذه السهولة ومنذ ما يقرب من السنوات العشر حتى الآن.
حتى الحديث عن السبب الذي كان الشرارة الأولى لهذه التسريبات يبدو غير مُقنع، فالولايات المتحدة كانت تقول إنها تجهل مصدر هذه الوثائق، ثم ربطتها بقيام جندي اسمه برادلي ماننغ، الذي تحوّل فيما بعد جنسياً إلى امرأة اسمها تشيلسي، وكان يعمل في وحدةٍ استخباراتية تابعة للجيش الأميركي بتسريب كل هذه الرسائل، مفارقة غريبة بقدرة هذا الجندي أساساً بتسريب معلومات كهذه بهذه الخطورة لمؤسسة تقول عن نفسها إنها «غير ربحية» تتلقى الدعم من هنا وهناك.
في الخلاصة: انتهت فيما يبدو حقبة الويكيليكس، لكن حكماً إن الويكيليكس بحاجةٍ لويكيليكس لنفهم حقيقة ما جرى، فلا يمكن لنا أن نصدق أن أسانج الموجود في السفارة الإكوادرية قام بتسريب معلوماتٍ عن أموال تمتلكها عائلة الرئيس الإكوادوري فقاموا بترحيله كعقوبةٍ له، فأسانج لن يدفع حريتهُ ثمناً لقول الحقيقة ويغامر مغامرةٍ غير عقلانية كهذه، لأنه لو كان كذلك في الأساس لما طلب اللجوء؟
إن ما جرى في ويكيليكس لا يبدو أكثر من فخٍّ جديد أدارته الولايات المتحدة بهدوء، قد يبدو هذا الكلام عند البعض مستغرباً وقد يبدو مستهجناً لكن قد يرتفع حجم الاستغراب والاستهجان عندما تقرؤون عبارة: «لستُ متضامناً مع أسانج»، وبدل هذه البكائيات على حدثٍ كل ما فيه غامض، استعدوا للمرحلة القادمة من الحرب المعلوماتية التي قد تكون ربما أسوأ بكثيرٍ مما جرّته علينا الويكيليكس، إلا إن كنا نتعاطى على أن عدونا ساذج، عندها تبدو المشكلة بذكائنا وليست بسذاجة العدو.