ثقافة وفن

الشاعر الدمشقي «عمر النص» بين الدبلوماسية واﻷدب … الغائب بجسده فقط والحاضر بأخلاقه الكريمة وقيمه الإنسانية وإنتاجه الثري

| سارة سلامة- تصوير: طارق السعدوني

ينضم الأديب الدمشقي (عمر بن شريف النص، دمشق عام 1928) إلى القامات السورية الكبيرة التي تركت إرثاً ثقافياً وإنسانياً في مختلف أنواع علوم الأدب والإبداع، وكتب الشعر، وألّف للمسرح والفلسفة، وحصل على الدكتوراه في القانون الدولي متنقلاً في عدد من الوظائف، وله عدة دواوين منها: (كانت لنا أيام1950، الليل في الدروب1985، ومرافئ الصمت 1970). وتخليداً لذكراه وتفعيلاً لدوره في إغناء المكتبة السورية والعربية دارت ندوة الأربعاء الثقافية بناءً على توصية من السيد وزير الثقافة وتشجيع من أصدقاء الشاعر وفي مقدمتهم الأستاذ عبد الله الخاني الذي كان حريصاً كل الحرص على تقديم وتكريم الدكتور النص لما له من مكانة أدبية وحقوقية واقتصادية كما أشار مدير الندوة الدكتور إسماعيل مروة، الذي أكد «متابعتهما لكون النص من الشخصيات السورية الكبيرة أدبياً وعلمياً، ومن الإجحاف ألا يتم الحديث عنها بالتفصيل لتكون منارة للأجيال القادمة».
وضمن فعاليات مهرجان دمشق الثقافي وبحضور وزير الثقافة محمد الأحمد أقيم في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق، ندوة «قامات في الفكر واﻷدب والحياة» تناولت الشاعر النص تحت شعار (بين الدبلوماسية واﻷدب).

شاعر وإنسان
واستهل الوزير الأحمد كلمته بأبيات شعرية للشاعر الكبير:
«أأَنْتِ كَتَبتِ أحَرُفَها أَانْتِ؟ وَكَيْف كَتَبَتِها وَلِمَنْ كَتَبَت؟
إلى هذا الأريج يَدق بابي ويقهر وحشتي ويدك صمتي
أَقبلها… وَأَدفنها بصدري كأَنّك خلف أحرفها استترت!
أتلك قُصاصة؟ أأنا خيال تهم شجونه فتكاد تحكي؟
يكاد الأمس يَلهث في عروقي وَيَزرع في جفوني ألف شك
بعثت بها إليّ فجن شوقي ونؤت بوحشتي وسئمتُ نسكي
فأَتركها على رهق وَأَمْن وتترُكُني على قلق وفتك
أحاول أَن أَكلمها فأعيا فَاقَرأ ثم أَقرأ.. ثم أبكي!
وتابع الأحمد حديثه قائلاً: «كان جدي (بدوي الجبل)، يشجعنا على القراءة أنا وبقية أحفاده من نعومة أظفارنا، ذات يوم رأيت جدي يمد لي كتابين أنيقين باذخي الورق والغلاف والإخراج، قائلاً لي: اقرأ هذا الشعر، وقرأتهُ فسحرت به، وأصابني دوار المفتون، وسكرة المأخوذ، ودهشة الوقوف في حضرة الجمال، لقد كان هذان الكتابان أول ديوانين يصدرهما شاعرنا الكبير عمر النص، الذي نحتفي به اليوم ولهذا جاء ديوانا «كانت لنا أيام» و «الليل في الدروب» ليتركا في قلبي وقتئذ ما يتركه المطر الكريم في قاحل الأرض وأديمها المغبر».
وأضاف الأحمد «ذات يوم سمعت جدي يعطي موعداً لعمر النص عندنا في البيت، ولم أكن أنا قد رأيته قبلاً، وكان جدي يستقبل ضيوفه في النصف الأول من النهار، وكنت حينئذ طالباً في الجامعة مواظباً على حضور الدروس كلها. إذن سيأتي عمر النص ولن أكون موجوداً. حينئذ لم يكن مفر من اللجوء إلى عذر ما، فاستأذنته في ألا أذهب إلى الجامعة ذلك اليوم، رغبة مني في التعرف على شاعري المفضل، وهذا ما كان، وقد جلست في حضرته وهو يتسامر مع جدي، محدقاً بإعجاب في كل تعابير وجهه وإيماءات يديه، وتفاصيل ثيابه. فتذكرت قول تشيخوف: (كل شيء في الإنسان ينبغي أن يكون رائعاً: وجهه وثيابه وروحه وأفكاره). فقد كان عمر النص في ذلك اللقاء مثالاً للروعة كما عناها تشيخوف بأعلى تجلياتها، لقد فتنت بشخصه بعد أن فتنت بشعره، وفتنت أيضاً بأدبه الجم وحزن عينيه وصمته العارف، عمر النص، شاعراً وإنساناً ورجلاً وسيماً نبيلاً، مثال فريد لالتحام المضمون العميق بالشكل البهي، وختم الأحمد حديثه إن وزارة الثقافة لتفتخر باستذكار ما تركه لنا النص من فيض مشاعر وتجليات روح».

مزج بين بحرين
وقدم الدكتور محمد شفيق البيطار محوره الذي حمل عنوان (الموسيقا في شعر عمر النص)، بين فيه أن: «قصائد ديوانه الأول (كانت لنا أيام) على سبعة بحور وهي الخفيف 6 قصائد، الطويل 5 قصائد، المتقارب 5 قصائد، الوافر 4 قصائد، الرمل3 قصائد، السريع 3 قصائد، الكامل قصيدتان، ويلحظ أن البحر الخفيف استأثر بوزن ست قصائد وهو بحر محبب لدى أصحاب النزعة الرومنسية، وكذلك غلبة البحر الخفيف والطويل على كثير من قصائده ذات الصبغة التأملية أو الفلسفية، واعتماده على المجزوءات في المواقف التي تهز وجدانه من ألم أو فرح، ليس في الديوان الأول شيء من التجديد في الأوزان سوى ما جاء من استعمال بحرين معاً، أما بقية شعره فيلحظ أنه جاءت 48 قصيده مجزوءة، وجاءت 13 قصيدة مشطورة، وبذلك يكون مجموع المجزوءات والمشطورات 68 قصيدة من أصل 131، وعدد من قصائده على مجزوء المتقارب أو مجزوء المتدارك وهما نادران في الشعر العربي قديمه وحديثه، ومن التجديد أنه مزج بين بحرين في قصيدة (نشيد الإنشاد) فجعل المطلع والخاتمة على البحر الطويل والحوار على المتقارب، وزيادة عدد التفعيلات على المألوف المعروف في بحور الشعر العربي، كما في مقدمة ديوانه الأخير (إلى أين يسافر البحر)».
ويلفت النظر في قوافيه أمور منها: جاء الديوان الأول (كانت لنا أيام) كل من الدال واللام والنون والباء والراء والعين، رويّا لقصيدتين قصيدتين لكل حرف، وهي من الحروف الشائعة في قوافي الشعر العربي، ويدلّ تساويها في العدد على أنه لا مزية لأحدها على الآخر عنده.
وجاء القاف في ديوانه الأول رويّا لخمس قصائد من أصل سبع وعشرين، وكان رويّا في ثمانية مواضع أخرى من ثماني قصائد متنوعة القوافي، وجاء القاف أيضاً في بقية شعره رويّا في تسعة وعشرين موضعاً وهذا يعني أن القاف جاء رويّا في (5+8+29+42) اثنين وأربعين نصاً، ما بين قصيدة ومقطع في شعره كله، من أصل (131) مئة وإحدى وثلاثين قصيدة، وهذا دال على أن للقاف مزية على سائر الحروف في قوافيه، ولعل لهذا أسباباً معنوية ونفسية لما في القاف من إيحاء بالقلق والأرق والترقب والضيق والفراق والقطيعة والشوق، وكلها موضوعات ومعان ومشاعر مبثوثة في شعره».

ثقافته الواسعة
ومن جانبه تناول الدكتور محمد قاسم (موضوع اللغة في شعر عمر النص) قائلاً: «ينحدر النص من أسرة موسرة عريقة في تجارة النسيج والاشتغال بالعلم، فوالده محمد شريف من أعيان دمشق تلقى العلم على يدي الشيخ محمد القاسمي، والمحدّث الأكبر محمد بدر الدين الحسني، ومحمد جعفر الكتاني، وجمع مكتبة فيها نوادر الكتب ونفائس الأصول أودى بها القصف الفرنسي لدمشق، وكان من المؤسسين لعدد من المعامل التي نهضت بالصناعة الوطنية الحديثة في دمشق، كمعمل الجوخ، ومعمل الإسمنت، وشركة المغازل والمناسج، في هذا الجو المتقد ولد عمر في 28 نيسان 1928، وتعلم في مدارسها، ثم التحق بكلية الحقوق في الجامعة السورية سنة 1946، وتخرج فيها سنة 1949، ثم أتم دراسته في جامعة باريس (السوربون) بين عامي 1955- 1958. ثم انتسب بين عامي 1958- 1960، إلى كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، وحصل على شهادتها العالية».
كانت حياته ملأى بطلب العلم بلغات ثلاث العربية والفرنسية والإنكليزية، وبالعمل في حقل السياسة والاقتصاد، ويكتنف ذلك سعة في العيش وبحبوحة في الرزق إلى مكانة اجتماعية مرموقة، إن ما جُبل عليه النص من كريم الطباع أبى أن يختطفه بهرج الحداثة أو أن تستخفه الشهرة، وليس فيما كان عليه النص من التواضع والهيبة والأمانة والصدق ما يغري دارسي الأدب والنقاد بالاقتراب منه على ما علمت من أدبه وإتقانه الحقيقي في الشعر شكلاً ومضموناً، كما أن الملاحظ العامة على لغة عمر النص هو ثقافته الواسعة بالتراث العربي واطلاعه عليه وتمرسه بأساليبه وافتتنانه بأعلام العمالقة مثل البحتري الذي أوصله إلى صفاء لغته ومنحه وطناً للشعر يركن إليه. هو لا يبني معانيه على معانيهم إذ جل معانيه أبكار استولدها من نفس حيرى تنهشها الوساوس وتكبلها الظنون، بل يجيل بصره في ألفاظهم وتراكيبهم فيجلوها بموهبة فذة ويزيدها حين يرصفها بريقاً ولمعاناً».

كنز ثمين
أما حسان النص نجل الشاعر الكبير فكان محور حديثه تحت عنوان (الوالد في صورة وجدانية) قال فيها: «محطات كثيرة ومواقف عديدة وحياة عامرة بكل معاني العطاء والحب والإخلاص، حياة ثمارها يانعة وقطوفها دانية لمن يقترب منها بحب فيتناول ما لذ وطاب، بحر عميق يمكن أن يغترف منه كل طالب علم وكل حريص لمعرفة هذه الشخصية الفذة، وكنز ثمين لكل من عرفه وعاش معه، عمر النص هو الغائب الحاضر بيننا، غائب بجسده فقط ولكنه حي حاضر بأخلاقه الكريمة وقيمه الإنسانية وإنتاجه الثري الذي خلفه وبصماته المؤثرة التي تركها شاهدا على حياة زاخرة بالعطاء والخير العميم، كان عمر النص قدوتي بكل شيء فهو رجل متميز يعيش مع الناس بجسده وأحاسيسه، لكن فكره يعمل في عالم آخر ينتظر ومضات الشاعر البراقة فيهرع ليسجلها ويودعها شعره البديع الذي ينم عن قريحة نادرة فتنساب درراً منثورة».
دارت الندوة بناءً على توصية من السيد وزير الثقافة وتشجيع من أصدقاء الشاعر وفي مقدمتهم الاستاذ عبد الله الخاني الذي كان حريصاً كل الحرص على تقديم وتكريم الدكتور النص لما له من مكانة أدبية وحقوقية واقتصادية كما أشار مدير الندوة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن