«لكلِّ إنسانٍ وطَنان.. وطنهُ الأم وسورية». عندما نطقَ أحد علماء الآثار الفرنسيين بهذهِ العبارة وهو يحاولُ فكَّ طلاسِم رموز الرُّقم الأوغاريتية، لم يكن يتكلم باسم دولةٍ شكَّلت في الماضي إحدى أكبر الدول الاستعمارية، ولم يكن يتكلّم عن سورية كإحدى تلك الدول التي استعمرتها فرنسا وأخرجَها السوريون بتضحياتهم، بل إنه تكلمَ بِما يمليهِ عليهِ ضميره الإنساني ليس تجاهَ بقعةٍ جغرافيةٍ محاصرة بحدودٍ مصطنعة فحسب، بل تجاهَ فكرةٍ أساسية، وهي الفرق بين من يَصنع الحضارة ومن يشتريها.
في السياق العام فإن صُنّاع الحضارة قلِّة أما سارقوها فهم كثُر، بعضهم سرقَها عبرَ الاحتلال كالعثمانيين والصهاينة مثلاً، وبعضهم الآخر سرقَها بالمال كمن اشترى لوحةً نادرة بمزادٍ ما ولو كان يجهَل خطوطها وأبعادها، على هذا الأساس فإن الانتماء للإنسانية لا يتجزأ، والإرث الحضاري في أي دولةٍ هو مُلكٌ لكلِّ المنتمينَ إلى الحضارة.
قبلَ أسبوعين تقريباً تابعنا الصورَ الواردة من العاصمة الفرنسية باريس لاحتراقِ كاتدرائية السيدة العذراء التاريخية، بالتأكيد لن نخوضَ هنا بأسئلةٍ تحقيقيةٍ عن الحدث كتزامنِ الاحتراق في يومٍ كان الشعب الفرنسي ينتظر فيه خطابَ «وضع النقاط على الحروف» من الرئيس إيمانويل ماكرون للأزمات الداخلية العالقة، وسعي النظام الفرنسي للوصولِ إلى حدثٍ يوحّد الفرنسيين، ولا حتى السر في تجاهل الجميع لدعوات القائمين على الكاتدرائية لجمعِ 50 مليون يورو من أجل صيانتها، لأننا نعرف أن «النظام العلماني» في فرنسا يمنع الدولةَ من تمويلِ أي شيء يتعلق بدور العبادة، لكن السؤال الأهم هنا: هل حقاً أن هذا الحدث يستحق ما شهدناه من «شماتة»؟
البعض رأَى في مشهدِ احتراقِ كاتدرائية السيدة العذراء التاريخية فرصةً للشماتة بدولةٍ كان نظامها السياسي ولا يزال أحد أهمِّ أسباب إطالة فترة الحرب على سورية، هؤلاء قد تبدو ردةُ فعلِهم الأولى مفهومة تحديداً أن هذا الحدث جاءَ في ظلِّ أزمةِ وقودٍ يعيشها المواطن السوري تبدو العقوبات الأوروبية التي يقودها النظام الفرنسي على سورية هي أحد أهم أسبابها، لكن في النهاية فإن الذي احترق ليس وزارة أو سفارة، فالذي احترق وانهار قد لا يعني كل من ذكرناهم إلا من باب التباكي الإعلامي، ولو كانت تعنيهم أساساً لعدلوا قوانينهم ليتمكنوا من إنقاذها قبل حصول الكارثة، مع العلم أن الكاتدرائية هي منجم ذهب سياحي للحكومة الفرنسية، ما احترقَ هو عملياً جزء من التراث الإنساني، هذه الأشياء ليست ملكاً لساركوزي ولا ماكرون هي ملك لمن يؤمن بها، ألَم نسأل يوماً قادةَ الحرب على سورية ما علاقة رفع ثوار الناتو لشعار «إسقاط النظام» بتدمير الآثار والأوابد ونبش القبور والأضرحة؟ كتدمر وبصرى، ونينوى، هي أشياء تَشهد على تاريخٍ ما ولو كان هذا التاريخ فيه الكثيرَ من السلبيات.
في الطرفِ الآخر مثلاً، هناك من أرادَ أن يُقنعنا بفرطِ إنسانيته، وعلى طريقةِ «جي سوي باريس» عندما ضربها الإرهاب، بدأ سوريون وتحديداً في المغتربات يُظهرون تضامنهم بعبارة «جي سوي نوتردام»، اللافت أن معظم هؤلاء مثلاً لم نسمع لهم صوتاً عندما نُهبَ الجامع الأَموي بحلب، ولا حتى عندما دمَّر الإرهاب كنيسة أم الزنار بحمص، بل نكاد نجزم أن معظمهم لا يتابعون حتى ما يجري في وطنهم من أحداث، أكثر من ذلك، حتى من تباكوا على جرائِم الإرهاب في باريس ولندن، صمتوا عندما وقعت المجازر الإرهابية في سيرلانكا، هنا يبدو الحدث مجردَ تباكٍ على الإنسانية لا أكثر، والأهم من كل ذلك أن التجارة بالمشاعر الإنسانية هي أشبه بالتجارة بالأوطان فلا فرق بين من نهبَ آثار بلدهِ وباعها وبين من يتباكى على آثارِ الآخرين ويتجاهل آلام بلدهِ، لا فرق بين ضحية تسقط بنيران الإرهاب في فرنسا أو سيرلانكا لأن الشعور الإنساني ليس درجات.
هؤلاء يتجاهلون مثلاً أن هناك فرنسيين بكوا عندما سمعوا بخبرِ اقتحام تنظيم داعش لتدمر، قد لا يكون هؤلاء الفرنسيون يعرفون عن سورية ولا عن نظام حكمها، لكنهم حكماً متمسكون بحالةٍ حضاريةٍ اسمها تدمر أكثر بكثير من بعضِ الذين يحملون الجنسية السورية.
التراث الإنساني حُكماً لا يتجزأ، والانتماء للفعل الإنساني لا يمكن لهُ أن يكون انتقائياً، علينا أن نطلب السلام لأرواح من ارتقوا بنيران الإرهاب في كل بقاع العالم، أما عن الشماتة فمن صفات النبيل ألا يشمت، قد لا يكترث وهذا حقه تحديداً عندما تكون الضحية «بريئة» كتراثٍ إنساني جامد، فكيف إن كان هذا النبيل هو جزءاً من وطنٍ هو الأول في صناعةِ الحضارة، ليس نحن من قال ذلك بل من قاله هو عالم آثارٍ فرنسي… أجل فرنسي.