سؤال كبير مطروح علينا جميعاً الآن: ماذا لو نجحت القوى التي تحشدت خلال السنوات التسع الماضية في مشروعها؟ أي من سمّت نفسها «معارضة»! والقوى الإقليمية والدولية التي دعمتها، ماذا سيحصل؟
بالطبع هذا سؤال افتراضي بعد سنوات ثمانية ونيف؟ ولكنه ضروري في هذه المرحلة حيث تتدفق علينا الكتب والمراجعات التي تجريها أطراف انخرطت في الحرب على سورية، سواء أكانت سورية أم إقليمية أم دولية؟ على الرغم من أنني أقرأ كل هذه المراجعات والدراسات، ولكن لا أعتب أو أجادل طرفاً معادياً لأنه بطبيعة الحال فإن العدو لن يرحمك لو نجح في مخططاته، ولكن السؤال الرئيس موجه للسوريين الذين انخرطوا مع قوى إقليمية ودولية، ضد بلدهم سواء بصفة «واجهة سياسية» أي مجالس وهياكل سمّت نفسها معارضة، أم بصفة أدوات ميدانية دمرت للأسف بأيديها بلدها وأهدرت تعب وعرق وجهد شعبها لعقود من الزمن، وتحولت إلى حصان طروادة ضد أمن بلدها واستقراره.
هنا لا أريد التطرق للنوع الثاني، إنما سأتطرق للنوع الأول أي أولئك الذين تنطحوا لموقع قيادة ما سمي «المعارضة السياسية»، الذين يعملون الآن مرة أخرى بصفة وعاظ ومنظرين على الناس والعباد، دون أن يخجلوا ولو لمرة واحدة في حياتهم، وأخص بالذكر ذلك الذي أسمي مفكراً سورياً في مرحلة ما، وقاد أول مجلس «إخونجي» وهو مدّعي العلمانية الفرنسية، والباريسية، وخاصة أنه نشر كتاباً تحت عنوان «عطب الذات – وقائع ثورة لم تكتمل سورية 2011-2012»، الذي روّج له على أحد المواقع الإلكترونية الإعلامي سامي كليب، معتبراً أنه كان ينتظر ما سوف يكتبه برهان غليون عما حصل في سورية، لأن الرجل يتربع على عدد من الكتب الفكرية منذ سبعينيات القرن الماضي، وانخرط حتى النخاع في الحرب السورية.
أستطيع أن أتفق مع الإعلامي سامي كليب لأننا يجب أن نقرأ ما يكتبه الجميع بمن فيهم أعداؤنا، فهذه مهمتنا، ودورنا كمثقفين لنتمكن من تقديم النقد اللازم، ولكنني أختلف معه في قضية أساسية في أنني وكثيراً من السوريين لم نكن ننتظر ما سيكتبه شخص مثل برهان غليون لأنه سقط سقوطاً حراً، منذ أن قبض المال من ممولي الثورة المزعومة، وقبل أن يكون رئيساً للمجلس الوطني السوري المزعوم، وهو يعرف أن مشروع المنطقة إخواني وهابي من ألفه إلى يائه، كما أن غليون في كل تصريحاته وتحليلاته، بدا بدائياً في التحليل السياسي وجاهلاً إلى حدّ كبير في تاريخ بلده وجغرافيتها أو تقصد ذلك، وزجّ نفسه مع قوى إجرامية وهابية وإخوانية يعرف هو قبل غيره أين هي صلاتها، ومداخلها ومخارجها؟ ويعرف هو قبل غيره أن باراك أوباما ليس تشي غيفارا، وإن أي قارئ هاوٍ للسياسات الأميركية يعرف أن الولايات المتحدة الأميركية كانت ومازالت تمتلك أولويتين أساسيتين في المنطقة هما «إسرائيل، والنفط والطاقة» أما البقية فهم مجرد أدوات رخيصة تستخدمهم وترميهم إلى مزابل التاريخ حينما تجدهم ليسوا فاعلين ومنتجين ضمن إطار مخططاتها، وهذا درس بسيط في السياسة ومن ثم كيف يمكن أن أقبل من شخص يتربع على عدد من الكتب الفكرية منذ سبعينيات القرن الماضي ولا يعرف هذه البديهية!
الأمر الآخر المهم أن شخصاً «مفكراً» مثل غليون كما يدعي، يعتبر أن الرئيس الأميركي أوباما كان له مساهمة كبيرة في دفع الأوضاع السورية نحو الكارثة! وأما موقف أوروبا فقد كان محزناً برأيه! كيف ذلك: فهل كان المطلوب تدخلاً عسكرياً مباشراً من أجل وصول غليون وأمثاله للسلطة! أي نموذج عراقي آخر! وكي يقتنع غليون ورفاقه أن ثورته المزعومة في سورية كلفت إمارة قطر الديمقراطية جداً، أكثر من 137 مليار دولار، حسب معلّم غليون، حمد بن جاسم! أليس من العار أن يبدأ مفكر مزعوم بإلقاء أسباب الفشل على دولة عظمى ودول أوروبية وغيرها، ومن دون أن يتذكر أستاذ علم الاجتماع، أن الثورات تحتاج إلى شعب يقتنع بجدواها، وبقياداتها، وبأهدافها، وشعاراتها! فأين الشعب السوري من كل هذا الهراء؟ ولماذا لم يقف معهم الغالبية من أبناء هذا الشعب؟ على الرغم من كل الدعم الإقليمي، والدولي ومليارات الدولارات والإعلام، والدبلوماسية، والحرب النفسية، والاستخبارية وصولاً للحصار الاقتصادي؟
ألم يسأل غليون وغيره كيف يمكن للرئيس بشار الأسد أن يصمد سنوات تسعاً من دون شعبه؟ وكيف يمكن لحليف روسي، أو إيراني أن يدعم رئيساً لولا اصطفاف غالبية الشعب السوري معه، وإدراكهم حقيقة المخططات التي كانت تستهدفهم هم وبلدهم سورية؟ ثم ماذا فعل الروس في أوكرانيا عندما هرب الرئيس الأوكراني في الأسبوعين الأولين من الصراع هناك، لأنه لم يكن يمتلك قاعدة شعبية فسقط سريعاً، ولم يستطع الرئيس فلاديمير بوتين أن يفعل شيئاً لشخص مهزوم، وشعبه ليس معه؟
النقطة الأهم أن كل تنبؤات، وتقديرات «المفكر الكبير» غليون لم تتحقق إذ كان عام 2011 في تصريحه لمجلة «المجلة» 28 كانون الأول، يتحدث عن انتهاء «نظام الأسد، وعدم استبعاده انقلاباً عسكرياً»، كما أن غليون دعا إلى مناطق آمنة وعازلة، وهي شكل من أشكال الدعوة للاحتلال المباشر للأرض السورية، لكن الشيء الذي لم يتحدث عنه أحد أن غليون وغيره كانوا قادمين على رأس مشروع سياسي خارجي مهمته نقل سورية من موقعها الحالي، إلى أحضان واشنطن والغرب، ونحو معاداة حركات المقاومة وإيران، وخاصة أن غليون نفسه كان يتحدث عن التحالفات في المنطقة أكثر مما يتحدث عن شعاراتهم البراقة «حرية ديمقراطية حقوق الإنسان»، وهي شعارات نريدها جميعاً، ولكن هذه الشعارات لا تفرض فرضاً، ولا تؤخذ بعلبة حبوب أميركية أو فرنسية أو بريطانية، فيصبح المجتمع ديمقراطياً مباشرة بعدها، لأن هذه القضايا تحتاج إلى تطور ثقافي ومفاهيمي، ولا نموذج موحداً «استاندارت» في العالم لتطبيقها.
ما أريد قوله باختصار: إن برهان غليون حتى لو نشر عشرات الكتب والمؤلفات ليحاول تبييض صفحته فقد بدا في كتابه حاقداً أكثر منه معارضاً سياسياً، كما بدا جاهلاً أكثر منه عالماً في تبريراته لما حدث، لأن غليون وغيره قبض ثمن تآمره على بلده باسم «المعارضة السياسية» واشترى منزلاً جديداً في باريس، وأنجز كل ما طلب منه، والآن هو «خائن متقاعد» ليس لديه عمل سوى التنظير وكتابة الكتب التي لا قيمة لها، والتي قد نقرؤها من باب أخذ العلم، والتأكد مرة أخرى أنه لم يكن لدينا للأسف معارضة سياسية بالمعنى الحقيقي للكلمة حتى لو حمل هؤلاء أعلى الشهادات، لأن أي مواطن سوري صمد في بلده، ودافع عنها هو أطهر من أطهرهم، وأي جندي سوري قاتل ويقاتل من أجل وحدة سورية واستقلالها هو قديس كبير، وأما الدماء التي اريقت من الشهداء والجرحى في سورية، فإن كل كتب غليون ومؤلفاته واعتذاراته لن تعيد لنا هؤلاء، ولذلك أعتذر منك أستاذ سامي كليب على دماثتك كإعلامي تحاول تدوير الزوايا، ولكني أنا كمواطن سوري وغيري كثر لا ننظر إلى هذا «الغليون» وأمثاله إلا على أنه خائن، ومرتزق، هؤلاء خونة وفقط خونة.