ثقافة وفن

المدن المنسية متحف طبيعي في الهواء الطلق … سيرجيلا المدينة المنحوتة في الصخر

| المهندس علي المبيض

أكدت الأبحاث التي أجريت على اللقى الأثرية السورية أن الأرض السورية بكاملها كانت تزخر بالحضارات العريقة منذ مليون سنة وأن أرض سورية الحالية قد شهدت أقدم وأهم الحضارات الإنسانية على وجه المعمورة، وقد أظهرت الدراسات التي ابتدأت منذ مطلع القرن الماضي باستخدام أحدث التقانات المخبرية والحقلية أن سورية قد تميزت بوجود إنساني وحضاري قديم جداً غني ومتنوع، وأن الشعوب التي أقامت ممالكها فوق هذه الأرض الطاهرة أسهمت بشكل فعال في تطوير الفنون والعلوم والمعارف الإنسانية وقدمت الاختراعات والابتكارات التي كان لها الأثر الفعال في رفع المستوى الثقافي والمعيشي للبشرية، كما أكدت آثار تلك الحضارات التي وصلت إلينا حقيقة الدور الريادي للسوريين الأوائل في جميع المجالات، وكنا سابقاً قد بدأنا باستعراض المدن المنسية في شمال سورية والتي تقع ضمن الحدود الإدارية لمحافظتي حلب وإدلب وذلك استمراراً للمقالات الأسبوعية التي نقوم بنشرها والتي نهدف من خلالها أن نبين أن سورية تتمتع بإرث حضاري كبير يعطينا الثقة بأن أمة بهذا العمق التاريخي المشرف قادرة على تجاوز كل المحن والمعوقات التي تعترض طريق نهوضها مجدداً للسير بخطا ثابتة نحو المستقبل، وقد بينا أن الاستيطان في المدن المنسية بدأ منذ القرن الأول الميلادي، ولابد من الإشارة إلى أن المساحة التي تشغلها المدن المنسية تزخر بالمعالم التاريخية بشكل كبير وتكتظ فيها المواقع الأثرية بكثافة لا مثيل لها في العالم، وهي تتألق في ذاكرة السوريين كأنها متحف في الهواء الطلق حيث تضم أكثر من ثلث ثروة سورية من الآثار المهمة والتي تروي قصص حضارات التاريخ السوري المجيد.. ونستكمل في مقالتنا لهذا اليوم الحديث عن المدن المنسية.

قرية قلب لوزة الأثرية
موقع أثري مهم جداً ولعله من أكثر المواقع الأثرية شهرة في المنطقة الشمالية الغربية من سورية ويتوافد إليها السياح من داخل سورية وخارجها وهي نقطة جذب مهمة جداً للسياحة الدينية، تقع القرية في جبل عالٍ على مسافة 65 كم جنوب غرب مدينة حلب وتبعد عن بلدة حارم مسافة 5 كم من الجهة الجنوبية الشرقية، تحوي القرية عدداً كبيراً من المعاصر القديمة المحفورة بالصخر وحوالي أربعة فنادق كما تضم كنيسة الثالوث الأقدس من طراز البازيليك وهي آبدة عمرانية فريدة في مظهرها، توصف بأنها لؤلؤة كنائس شمال سورية بل ربما تكون من أجمل الكنائس التاريخية فيها، يعود تاريخ بناء كنيسة قلب اللوزة إلى العصر البيزنطي في منتصف القرن الخامس الميلادي ويطلق عليها البعض اسم قصر لوزة وهناك من يسميها كاتدرائية، يعتقد أنها قد شيدت في حياة القديس سمعان العمودي أو بعد وفاته بقليل وهي ذات مساحة كبيرة تزيد على حاجة السكان في تلك الفترة إذ يبلغ طول الكنيسة نحو 25 م وعرضها 15 م، لذلك فإنه من المعتقد أن قرية قلب لوزة كانت مركزاً للحج يخدم كامل المنطقة ويدلنا على ذلك دقة زخارف الكنيسة والعناية الفنية الفائقة اللافتة للنظر التي تميزت فيها النقوش الرائعة المنحوتة، إضافة إلى وجود الفنادق الأربعة لإيواء الحجيج ووجود عدد كبير من المعاصر وذلك لتلبية الطلب الكبير للزيت الذي كان يستخدم للإنارة. تأثر بناء الكنيسة بأسلوب ومواصفات العمارة السورية البيزنطية القديمة حيث تعتبر مثالاً مهماً لهذا الفن وتعد من أولى الكنائس التي يكون فيها الجناح الرئيسي محمولاً على دعائم ضخمة ترتكز إليها الأقواس عوضاً من الأعمدة، وتتألف الكنيسة من ثلاثة صحون وعلى جانبيها أروقة مكونة من جملة عناصر معمارية تزينها زخارف ونقوش جميلة ويعلوها أعمدة وتيجان أدخلت على بنائها وربما لأول مرة في أبنية الكنائس في المنطقة ويحيط بها سور كلسي.

سيرجيلا
مدينة أثرية مهمة تقع إلى الجنوب الشرقي لمدينة البارة وتبعد عن المعرة مسافة 9.5 كم، وتسمية سيرجيلا كلمة سريانية وتعني سراج اللـه وقد بنيت في منطقة أقرب إلى وادي يجاورها عدد من المدن الأثرية المهمة مثل شنشراح وخربة الربيعة وخراب الشمس وقاطورة وست الروم وغيرها، هجرها سكانها قبل 1300 عام فقد حزموا أغراضهم ونظفوا منازلهم ورحلوا عنها تاركين للتاريخ بيوتهم وهنالك عدة دراسات تبحث عن أسباب الهجرة إلا أنها تنحصر في إطار الفرضيات، وسيرجيلا قرية شبه منحوتة في الصخر لذلك فإن ينابيع المياه فيها نادرة وهذا ما دفع سكانها إلى تخزين مياه الأمطار في خزانات منحوتة في الصخر، وهي تعطي صورة واضحة عن وضع الأرياف في الفترتين الرومانية والبيزنطية، وتتميز هذه المدينة بمبانيها الدينية والخدمية والاقتصادية وهي تقدم نماذج هندسية معمارية واضحة عن البيوت والكنائس والمدافن، ونتعرف من خلال آثارها المتبقية إلى أسلوب الحياة الاجتماعية والاقتصادية كالزراعة والصناعات المرتبطة بها مثل معاصر الزيتون الموجودة بكثرة في المنطقة، ويتضح لنا من المستوى الفني لآثارها حالة متقدمة من الرخاء والرفاهية التي كان يتمتع بها سكانها في القرون الأولى الميلادية، ونستدل على ذلك من بيوتهم الجميلة والواسعة والتي يزيد بعضها على عشر غرف ويصل ارتفاع أسقفها إلى نحو عشرة أمتار وتحوي غرفاً خاصةً للمونة في الأقبية ومساحات معينة تستخدم كإسطبلات، وتتوزع الغرف على محيط الدار وتنفتح على الفسحة السماوية ويدل اتساع هذه البيوت على الحياة الاجتماعية والعائلية فالأسرة متكاتفة ومتعاضدة، وإضافة إلى المستوى المادي الجيد لسكان القرية فإن المستوى الثقافي والفني لهم متقدم ونستدل على ذلك من الزخارف الفنية التي تزين واجهات الأبنية كما أن سكانها يتحدثون اللغتين السريانية واليونانية، وتضم سيرجيلا عدداً كبيراً من الكنائس مبنية على الطراز البازيليكي ما يدل على أهمية المنطقة من الناحية الدينية وانتشار الديانة المسيحية فيها، ومن المعالم الأثرية في سيرجيلا حمام روماني يعود تاريخه إلى منتصف القرن الخامس الميلادي إضافة إلى المدافن التي تعود إلى العهد الآرامي والعموري وهي غرف محفورة بالصخر ويأخذ القبر الشكل الهرمي وهو عبارة عن برج أسطواني يرتفع فوق قاعدة يبلغ ارتفاعه بين15 و30 م، وكان يربط مدينة سيرجيلا بالمعرة طريق مرصوف من الحجارة وذلك منذ العهد البيزنطي.

مدينة البارة
تقع مدينة البارة عند السفح الغربي لجبل الزاوية وهي واحدة من أهم المدن في العصر الروماني والبيزنطي، وتشير الدراسات إلى أن البارة كانت تتبع مملكة أفاميا في العصر البيزنطي وكان لها دور زراعي وتجاري وعسكري مهم في القرن الثاني قبل الميلاد، وتزخر البارة بالعديد من الأبنية كما تحوي مدافن بعضها روماني أو بيزنطي وبعضها عربي تأخذ شكلاً هرمياً وتتميز بهندستها الرفيعة وهي مزينة بزخارف ونقوش رائعة مأخوذة من أشكال أوراق شجر اللبلاب، وتدل مباني البارة السكنية على أن المدينة كانت على مستوى متقدم من الرخاء والرفاهية حيث تتكون مبانيها من طابقين زينا بالنقوش والزخارف غاية في الدقة والجمال كما تضم المدينة العديد من معاصر الزيتون ومصانع النبيذ، وتتميز أزقة المدينة بأنها ضيقة وهي تعكس خوف سكانها المتأصل وحذرهم من الغزوات التي كانت المدينة تتعرض لها بكثرة، ويتميز بناء الكنائس والأديرة بالفخامة وهي من طراز البازيليكي وتضم المدينة قلعة شهيرة تعرف باسم قلعة «أبو سفيان» يعود تاريخها إلى العصر الأيوبي.

الأندرين
هي مدينة قديمة تعتبر امتداداً للمدن المنسية تقع عند التقاء الحدود الإدارية لمحافظتي حلب وحماة، تبعد عن مدينة حماة مسافة 85 كم من جهة الشمال الشرقي كما تبعد مسافة 25 كم إلى الشمال الشرقي من قصر ابن وردان، ولا تزال آثارها شاهدةً على عظمتها كما أطلق عليها قديماً اسم أندرونا وكلمة أندر بالسريانية تعني البيدر وجمعها أندرين أي البيادر، اشتهرت مدينة الأندرين بكرومها الكثيرة وتعتبر من أشهر مدن الشرق إنتاجاً للخمور لدرجة أن معظم واجهات بيوتها تزينها رسومات شجرة الكرمة التي كانت تستخدم لسقايتها الأقنية الرومانية وفق نظام ري متطور وكان أبناء المدينة يتقنون تصنيع الخمور التي ذاع صيتها ليس فقط ضمن المدينة بل تعدى ذلك البلاد المجاورة حيث ذكرها الشاعر عمرو بن كلثوم في مطلع معلقته فقال:
ألا هبي بصحنك فأصبحينا
ولا تبقي خمور الأندرينا
والأنْدرين مدينة واسعة ترقى للعصر البيزنطي وقد بنيت أبنيتها بالحجارة البازلتية والآجر المشوي وهذه الأبنية تشبه الأبراج، كما تحوي المدينة حصناً محاطاً بسور دفاعي تتخلله فتحات لرمي السهام وضمن هذا الحصن توضعت بيوت سكنية وكنيسة، ويحيط بمدينة الأندرين أيضاً سور ضخم لا يزال جزء منه سالماً وتظهر منه أبراج مربعة وهو مبني من الحجارة الضخمة المستطيلة، وتضم المدينة حمامين الأول بيزنطي يعود تاريخ بنائه للقرن السادس الميلادي والآخر عربي يعود تاريخه إلى فترة الخلافة الراشدية، ويخترق المدينة شارعان يتقاطعان في وسطها شارع رئيسي يتجه من الشمال إلى الجنوب يسمى الكاردو يقطعه شارع آخر من الشرق إلى الغرب يسمى الديكومانوس، كما تضم الأندرين عدداً من الكنائس التي ترقى للقرنين الخامس والسادس الميلاديين ويبلغ عددها نحو عشر كنائس وقد خربت واندثرت وتهدم بنيانها ولم يبق منها الآن سوى الأنقاض وبقايا الأطلال.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن