شهرٌ يعلِّمُ الصبرَ لفاقديه ويطهِّرُ النفسَ من الأدران ويشفي الجسدَ العليل ويريحُ الروحَ الكئيبة.
شهر تحتدم فيه المعركة الكبرى بين الروح والجسد… وقلما تنتصر الروح… وأنى لها ذلك.
كيف تنتصر الروح على الجسد وقد جهز الإنسان لنفسه كل الأسلحة الفتاكة التي تتخم الجسد وتضعف الروح.
شهر أقل ما يقال فيه إنه جاء ليريح الجهاز الهضمي من عناء الأشهر السابقة، ويقدم للروح طهر العفة ومتعة الرقي… لكن الإنسان يعاند القدر، صحيح أنه صام لعدة ساعات ولعله قد ارتقى إلى الملأ الأعلى… لكنه سرعان ما يعود فيهبط إلى باطن الأرض، إذ ما أن تنتهي ساعات (التخفف) من الطعام حتى يأتي موعد تلك المائدة الرمضانية العجيبة التي توحي للناظر إليها وكأن الإنسان قد صام الأحد عشر شهراً السابقة وجاء الآن لكي (يفطر) في رمضان، بل كأن الأشهر كلها أشهر صيام ورمضان هو شهر الطعام.
برع السوريون في تنميق وتصفيف وتزويق الطعام وأكثر ما تظهر موهبتهم هذه في شهر رمضان حيث تتنوع الأطعمة لتلبي جميع ما تشتهيه النفس، ولابد أولاً لمائدة الإفطار من أن تحتوي على مشروبات يطفئ بها الصائم ظمأه وعلى رأسها يأتي شراب عرق السوس ثم شراب التمر الهندي وشراب التمر بالحليب.
بعد ذلك يبدأ الصائم بتناول المقبلات ومن بينها فتة الحِمَّص بالزيت أو السمنة، والفول بالزيت والمتبّل والحمص الحب والمسبّحة والبابا غنوج، ومن المقبلات أيضاً السلطات بأنواعها مثل سلطة الأرضي شوكي وسلطة المايونيز، والفتوش، والتبولة، والسلطة الخضراء، وسلطة اللبن وغيرها، ثم بعد ذلك يأتي دور الشوربات بأنواعها مثل شوربة الشعيرية وشورية العدس أو الجزر أو شوربة الدجاج وهناك شوربة الحمص وشوربة البصل، وشوربة كريم الدجاج، وشوربة الكشك وشوربة الخضراوات، ومن ضمن المقبلات الكبة النية مع زيت الزيتون، وكرات البطاطا، وخضار مشوية، ومعكرونة باللبن، أو برك الجبن المقلية، والبطاطا المقلية.
بعد تناول المقبلات التي تكون مقدمة للطعام الحقيقي نصل إلى ما يسمى بـالوجبة الثانوية… والتي غالباً ما تكون كبة مشوية ومقلية أو كبة بالصينية أو كبة مبرومة، ويمكن أن تكون الصفيحة الشامية واللحمة بعجين، واليالانجي، والفاصولياء الخضراء المقلية بالزيت والثوم أو فتة المكدوس التي يوضع على وجهها قليل من الصنوبر واللحمة الناعمة المتبّلة أو فتة لحمة بخل أو فتة مقادم.
أما الوجبة الرئيسية الغنية فتكون إما كوسا محشي، أو شيخ المحشي، أو كبة لبنية، أو أوزي، أو الشيش برك، أو البسمشكات أو الشاكرية (اللحمة المطبوخة باللبن)، أو اليبرق وهو ورق عنب محشي بالأرز واللحمة، أو قد تكون الوجبة الرئيسية بامية أو ملوخية أو عيشه خانم أو فولية أو الأرز بالفول.
وفي الختام فإنه مهما كان الطعام غنياً ومتنوعاً وثقيلاً فإنه بعد الفراغ من الوجبة الرئيسية فإن الصائم يلجأ إلى المثل القائل: في المعدة خلوة لا تملؤها إلا الحلوى، لذلك فإنه لا يمكن أن تخلو مائدة رمضانية من الحلويات… وإن تنوع الحلويات يجعلها تناسب الجميع، فهناك حلويات مصنوعة من الحليب يتناولها الفقراء وحلويات بالقشطة أو الجبن يتناولها الأغنياء وحلويات بالفستق الحلبي يتناولها الأثرياء.
أما حلويات بالحليب فهي الأرز بالحليب والألماسية (التي يضاف إليها ورق النارنج لتعطيرها وإضفاء نكهة محببة عليها)، المهلبية وهي مثل الألماسية وزيادة قليلة في النشاء وحبات المسك ويرش عليها السكر الناعم… وهناك كشك الأمراء المغطى باللوز والفستق… وهو يشبه المحلاية إلا أن هذه حليب مطبوخ يتم تجميده بواسطة (الملفحة) التي تؤخذ من معدة الخروف الوليد… وهناك أنواع أخرى من حلويات الحليب مثل البالوظة والمبطنة والبالوظة بالدبس والرشتاية والخبيصة.
وأما حلويات القشطة أو الجبن فهي الكنافة المدلوقة والتي يرشُّ فوقها الفستق المبشور والكنافة بجبنة والنهش وهو صحن دائري يحوي قطعة من القشطة محشورة بين قطعتين من رقائق الطحين المقلية بالسمن والمرشوشة بقطرات من القطر، كذلك هناك النمورة وهي قطع من الورق تحتوي قشطة نيئة، والمغشوشة وهي قطع من الكنافة المقلية إلى حد التحمير، تمد على الأواني ويمدُّ فوقها طبقة كثيفة من القشطة المعجونة بالفستق، ثم يتم برمها لتصبح أسطوانة، وبعد ذلك تُقطَّع إلى شرائح دائرية بشكل مائل… وسميت مغشوشة لأنه تمَّ غشها بالقشطة في حين أن الأصل فيها أن تكون مبرومة بالفستق، وهناك اللبنية بالقشطة وهي تشبه الكبة اللبنية، وهي أقراص من الكنافة تحشى بالفستق، ثم تسبح في القشطة النيئة… لكن هضمها عسير ويحتاج إلى معدة شابَّة… وهناك الكلاّج وهو ورق رقيق مصنوع من مادة نشوية، يتم حشوه بالقشطة مع الفستق المبشور، ثم يصب عليه القطر المعطَّر بماء الزهر، الوربات بالقشطة والوردات بالقشطة والفارق بينهما أن الأولى تحتوي قشطة مغلية أما الوردات فإن قشطتها نيئة، وهناك القطايف العصافيري والمطبقات والعوامة والزنكل.
وأما حلويات الفستق فهي البللورية أوالبقلاوة وهي قطع مربعة أو معينة تحتوي فستقاً مهروساً والمبرومة بالفستق والكول وشكور.
صيام في النهار نتخفف فيه من الطعام يعقبه إفطار عجيب في الليل نتناول فيه أضعاف ما تركناه في النهار من نشويات وسكريات.
قبل رمضان كنا نأكل ثلاث وجبات… وفي رمضان نقتصر على وجبتين ولكن إحداهما وحدها تعادل ثلاث وجبات… وكأن الصيام زاد وجبات طعامنا اليومي فأصبحت أربع وجبات… فأي صيام هذا؟