يتساءل البعض، إن لم نقل الكثير، من الناس في أوروبا القارية بمزيج من الدهشة الممزوجة بالشماتة، ما المشكلة في بريطانيا حتى أصبحت رجل أوروبا المريض بعد أن كانت، في الماضي الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس؟ المد الشعبوي في بريطانيا جعل الاستفتاء الشعبي عام 2016 لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي، إنها فوضى حقيقية تعيشها بريطانيا السياسية والاقتصادية، وتزداد هذه الفوضى، مع الخلافات الدائرة ضمن الحكومة والحزب الحاكم. لم يحدث قط أن كان النظام البريطاني عرضة للإجهاد بمثل هذه الفترة الطويلة. أزمة السويس عام 1956 انتهت في غضون شهر، أما الأزمة الحالية فهي مستمرة لمدة عامين ونصف العام من حرب الخنادق البرلمانية. اجتماعات مجلس الوزراء تسرّبت، والانضباط الحزبي تفكك. يقول ستيوارت وود، عضو البرلمان من حزب العمال: إنه إذا أزلنا الفوضى والمهزلة، فإن عملية البريكست أظهرت أن دستورنا غير المكتوب معطوب بشكل أساس.
كانت بريطانيا في ستينيات القرن الماضي تعاني ضعفاً اقتصادياً لازمها طويلاً، إلى أن أصبحت مارجريت تاتشر رئيسة للوزراء، حيث شهد الوضع الاقتصادي تحسناً نسبياً، واليوم نشهد بريطانيا الضعيفة المريضة التي تواجه صعوبات يمكن اختصارها بست مشاكل متزامنة. المشكلة الأولى، أزمة اقتصادية: كانت نقطة البداية هي صدمة الأزمة المالية عام 2008. حالياً الركود في الإنتاجية، وفقا لمنظمة كونفرنس بورد. إنتاجية المملكة المتحدة في الساعة منخفضة مقارنة بالمعدل في كل من إيرلندا وبلجيكا والولايات المتحدة والدنمارك وهولندا وألمانيا وفرنسا وسويسرا وسنغافورة والسويد والنمسا وأستراليا وفنلندا وكندا. إن ركود الإنتاج يعني ركود الدخل الحقيقي لكل فرد. المشكلة الثانية تتعلق بالهوية الوطنية حصراً، وبالتالي حول الولاء.
كثيرون مرتاحون من وجود هويات متعددة. آخرون يصرون على أن تكون هناك هوية واحدة فقط. إن تسييس تلك المفاضلة، يجعل الأمر أكثر مرارة وانقساما، كما حصل، في أعقاب التصويت لمصلحة الخروج. المشكلة الثالثة، خروج بريطانيا أدى إلى تسليح الهوية، وهو ما حول تلك الاختلافات إلى اتهامات بالخيانة. أصبحت فكرة «الخيانة» جزءاً من النقاش السياسي، ومن ثم مثل هذا المنظور لا ينسجم مع الحياة الديمقراطية. لقد أصبحت بريطانيا منقسمة بالتساوي، لدرجة أنه يستحيل اتخاذ القرار في الوقت الحاضر.
المشكلة الرابعة سياسية: بسبب الانقسام بين أولئك الذين يسعدهم الجمع لأنهم بريطانيون وأوروبيون في آن واحد، وأولئك الذين يصرون على أنهم بريطانيون فقط.
المشكلة الخامسة دستورية. عضوية الاتحاد الأوروبي مسألة دستورية. استخدام الاستفتاءات كأداة لحل هذه المسائل الدستورية هو في حد ذاته معضلة دستورية.
المشكلة السادسة، هي الأكثر أهمية، ألا وهي أزمة القيادة. وهو ما ينطبق على ديفيد كاميرون وعلى عناد تيريزا ماي الجامح. الأزمات في بريطانيا ترتبط جميعها بعضها مع بعض؟
من المؤكد أن النتائج الاقتصادية السيئة، من حيث نمو الدخل الحقيقي، ترتبط بظهور الهوية الوطنية كقضية بارزة، على الرغم من وجود عوامل أخرى، أبرزها الهجرة. ستظل بريطانيا، مريضة لفترة من الوقت، مرة أخرى، لا غرو إن عادت لتلعب من جديد دوراً يلائمها كرجل أوروبا المريض. ما مستقبل دور بريطانيا في التجارة العالمية بعد خروجها من الاتحاد.
المشكلة هنا تكمن في الإرباك داخل حكومة ماي الحالية. فهي أولا: لا تستطيع أن تعقد اتفاقات تجارية مع أي دولة، فإما أن تكون ضمن الكيان التجاري الأوروبي أو خارجه. المملكة المتحدة يجمعها أكثر من 40 اتفاقية مع دول العالم بحكم عضويتها الطبيعية في الاتحاد الأوروبي وعليها أن تطلق مفاوضات مع هذه الدول. على صعيد الولايات المتحدة، رغم ترحيب الرئيس الأميركي دونالد ترامب بخطوات الانفصال البريطانية عن أوروبا، إلا أن الكونجرس الأميركي أعلن أنه لن يصادق على أي اتفاقية ثنائية بمزايا خاصة مع بريطانيا.
أفاد استطلاع للرأي يُعد الأكبر من نوعه، أن البريطانيين سيصوتون للبقاء في الاتحاد الأوروبي بنسبة 54 بالمئة مقابل 46 بالمئة في حال جرى استفتاء ثان حول خروج بريطانيا من التكتل.
أمام الاستفتاء الثاني ثلاث عقبات، أولاها سياسية والأخرى تتعلق بالإجراءات، على حين يطرح الجدول الزمني نفسه عقبة ثالثة. هل تغادر أسكتلندا المملكة المتحدة عقب البريكست؟ تصاعدت حملة الاستقلال مجدداً في أسكتلندا وباتت تطغى على حيز مهم من نقاشات السياسيين.
وتتمتع أسكتلندا بحكم ذاتي، ويعيش فيها أكثر من خمسة ملايين نسمة، كما تعد مساحتها ثلث مساحة المملكة المتحدة، وتسهم بنحو 10 بالمئة في اقتصاد البلاد بحكم ثروتها النفطية وأن أسكتلندا قد تكون هي أكبر الخاسرين إذا حدث الانفصال نظرا لارتباط اقتصادها مع باقي المملكة المتحدة. كان استفتاء «بريكست» هو المرة الأولى التي يصوّت فيها الناخبون في بريطانيا على نتيجة اختلف معها أعضاء البرلمان. نحو 52 بالمئة من الناخبين البريطانيين دعموا المغادرة، فيما صوّت 75 في المئة من أعضاء البرلمان اليوم للبقاء. أصبحت الديمقراطية البرلمانية والديمقراطية المباشرة غير متوافقتين. الآن حزب المحافظين بقيادة بوريس جونسون وحزب العمال بقيادة جيرمي كوربين. هذان الرجلان يبدو لي أنهما أقل رؤساء الوزراء المحتملين كفاءة. الأول مهرج متمكن من لعب دور الزمار لمصلحة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (من قصة زمار هاملين وهو شخص يتبعه الناس، إلا أنه قد يؤذيهم أو يشعرهم بالخيبة) في نهاية المطاف، والآخر اشتراكي متشدد. مع مثل هؤلاء القادة، ليس من شأن الفوضى إلا أن تزداد سوءاً. النتيجة هي طريق مسدود: الحكومة أضعف من أن تحكم، والبرلمان جبان وفوضوي للغاية على نحو لا يؤهله لتولي هذا الدور. إنها القوة القابلة للتوقف مقابل الأشياء المتحركة.
السؤال أين تأخذ هذه الأزمة النظام السياسي في بريطانيا؟ هل ستوجد رغبة في الإصلاح أم رغبة في عدم إعادة فتح الجروح القديمة؟ أستاذ التاريخ فيرنون بوجدانو يرى بريكست لحظة دستورية أوسع نطاقاً لتصحيح أعوام من العبث. في الانتخابات المحلية منذ أيام مُني حزبا المحافظين الحاكم والعمال المعارض بخسائر نتيجة إحباط الناخبين من التخبط ومأزق ملف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وقال النائب العمالي أوين سميث: إن الناخبين لا يكافئون المراوغين. أخيراً الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس أصبحت رجل أوروبا المريض وجزيرة على الشاطئ الشرقي للمحيط الأطلسي.