كثيرة هي المؤشرات التي يشهدها الشرق السوري والتي تؤكد أن ثمة ملامح متغيرة سوف يشهدها هذا الأخير على الأمدين القريب والمتوسط، وهي في تماهياتها وحيثما اتجهت ستشكل سيلاً جارفاً لطموح كردي لم يقم أصلاً على وقائع أو حقائق، وإنما كان حاله حال المريض المسجى في غرفة إنعاش حتى إذا ما غاب أو تأخر ممرضوه وانقطع شريط السيروم عن عروقه جفت هذه الأخيرة، والراجح الآن أن تلك العروق قد دخلت مرحلة تجفافها أقله في بداياتها.
مثلت احتجاجات ريفي دير الزور الشمالي والغربي المندلعة في أواخر الشهر الماضي نذيراً استباقياً لقرب انتهاء المهمة الوظيفية التي اضطلعت بها ميليشيا قسد التي استمدت مشروعيتها أساساً من إعلان الحرب على داعش بدءاً من أيلول 2014، وإذا ما كان الأميركيون قد حاولوا تمديد تلك المهمة عبر إطلاق شعار «الهزيمة المستدامة» للتنظيم المتطرف، فإن للشارع الذي تحكمه ميليشيا قسد رأياً آخر كما يبدو، وخلافاً لأي تقديرات معاكسة يمكن القول إن الشارع كان دائماً يتمتع بحس سليم في تقييم ما يجري وما يراه مهماً لابس ذلك التقييم من شوائب هامشية تبدو في كثير من الأحايين مبررة تحت ثقل الضبابية أحياناً وبفعل الرزوح تحت سلطة الأمر الواقع أحياناً أخرى، إلا أن التجربة أكدت أن الشارع يخطئ ويصيب لكنه دائماً سرعان ما يكتشف بفعل تجربته الذاتية مواطن الخطأ الذي وقع فيه ثم لا يلبث أن يعود فيسير نحو تصحيحها.
يمكن القول في الاحتجاجات التي شهدها ريف دير الزور الكثير تبعاً للمظاهر التي تبدت عليها أو اللبوس الذي اختارته، إلا أن تحليل تلك الظاهرة يشير في كل حالاتها التي تمظهرت عليها إلى استيقاظ شعور دفين لدى أوساطها فيه حنين للعودة إلى حضن الدولة بعيداً عن حكم الميليشيات التي ما انفكت تتبنى سياسات «ضربة ع الحافر وضربة ع المسمار» في سياق مغامرة مطلوبة خارجياً وما من دواع داخلية لها بل لا تحتملها التركيبة السورية أساساً تحت أي ظرف كان، وهذي السياقات هي التي جعلت من «كل البقرات سوداء» طالما أن الليل هو وحده الذي يسكن البصيرة فلا يغادرها.
في القراءة الواقعية لتلك الاحتجاجات انطلاقاً من الشعارات التي رفعتها نلحظ كتلاً ثلاثاً متفاوتة في ثقلها وأحجامها، الأولى، وهذي هي الأثقل، وقد تمركزت بشكل أساسي في ريف الحسكة الجنوبي بمدن مركدة، الشدادي، أبو فاس، الـ47، أم مدفع، وصولاً إلى ريف دير الزور الشمالي، وشعاراتها التي رفعتها كانت مؤيدة للجيش وللدولة السورية، أما الثانية، الأقل بين الثلاث، فتمركزت في مدينة البصيرة والبلدات المحيطة بها، وقد تبنت في شعاراتها تأييداً لداعش بل ذهبت إلى حدود التوعد بعودة التنظيم ومحاسبة كل من نشط ضده، في مؤشر يحمل نزعة التعويل على «نفحة عروبية» كان يحملها التنظيم على الرغم من الطابع الإسلامي الذي أراده هوية له، ومن المؤكد أن هذي الظاهرة تعبر عن حال من اليأس قصوى قد بلغتها شرائح هذه الكتلة تماماً كما حصل للكثير من شرائح المجتمعين العربي والإسلامي التي أظهرت حماساً منقطع النظير لأحداث 11 أيلول 2001 التي رأت فيها «ثأراً» من طغيان القوة الأميركية، فيما الثالثة، وهؤلاء لا بأس بهم، ومركزهم ريف دير الزور الغربي المتصل بريف الرقة وصولاً لتل أبيض وسلوك، على الحدود مع تركيا، فقد رفعت شعارات مؤيده لـ«درع الفرات» المدعومة تركيا، في مؤشر على قراءة لدى هؤلاء ترى أن القوة التركية هي الوسيلة «الأقرب» للخلاص من تسلط قسد الذي ترزح شرائحها تحته.
وفي طبقة الجلد التي تلي البشرة تماماً تظهر المطالب التي رفعتها الاحتجاجات صورة مكثفة للصورة السابقة، فعلى الرغم من أن تلك المطالب كانت قد توارت وراء نواح خدمية، وشكاوى من التهميش وتدني الخدمات مع تسجيل نفور كبير تجاه تراخي قسد مع قطاع الطرق واللصوص بالتزامن مع سرقتها للنفط وتهريبه، على الرغم من ذلك فإن لكل ما سبق تراجم سياسية خالصة، إلا أن ظهورها بشكلها الذي ظهرت عليه يعود إلى سببين اثنين أولهما: سلطة الأمر الواقع، وثانيهما غياب أي تنظيم سياسي قادر على بلورة تلك المطالب بشكلها السياسي الصريح، ولربما كانت من المفارقات المهمة هو أن الإطار الذي استخدمته قسد لتلوين صورتها الداخلية وكذا الخارجية عبر ضم مقاتلين عرباً لزوم زركشة اللوحة، هذا الإطار نفسه هو الذي بات يشكل التهديد الحقيقي لها من الداخل عبر تمرد «مجلس دير الزور العسكري» الذي قال في بيانه الصادر عشية الاحتجاجات إنه قدم 400 فرد من مقاتليه في معركة الباغوز لوحدها في آذار الماضي ومع ذلك لم يلق إلا الجحود والخذلان من قيادات قسد.
يمكن رصد حجم القلق الذي خلفته احتجاجات دير الزور عبر لحظ المحاولات المسعورة إلى احتوائها، أقله من جانب قيادات قسد، وهي في مطلق الأحوال كانت قد سجلت فشلاً ذريعاً رصده اجتماع «عين عيسى» في 3 أيار الجاري الذي غابت عنه قيادات العشائر من الصفين الأول والثاني، فالتقارير التي أشارت إلى سعي أميركي محموم أيضاً ترصده بعض التحركات والتصريحات يتلاقى بالنتيجة مع مساعي قسد، هي على الأرجح قد أخطأت التقدير، وعلى الرغم من أنه يمكن لحظ وتسجيل تلك الرتوش إلا أن ذلك يمثل فقط نصف الكأس الفارغ، فيما نصفه الممتلئ كان يتبدى في إسطنبول التي شهدت يوم الجمعة الماضي معرضاً دولياً للصناعات الدفاعية وفيه قال وزير الدفاع التركي خلوصي آكار: «سعدت برؤية جيفري، ويقصد جيمس جيفري المبعوث الأميركي الخاص بسورية، ووفده التي تقترب من وجهات نظرنا، وأرى أننا سنقترب من بعضنا في القضايا الثنائية وفي مقدمها المنطقة الآمنة في سورية خلال اللقاءات المقبلة»، ثم عاد وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو وأكد الأمر نفسه في اليوم التالي في مؤتمر صحفي كان قد جمعه إلى نظيره وزير خارجية الباراغوي.
هذان التصريحان شديدا الأهمية وهما يبتعدان في مدلولاتهما عن ما ذكره آكار، ثم أوغلو، بخصوص المنطقة الآمنة في الشمال السوري، وقد يرقى إلى حالة استعداد تعيشها أنقرة لحرق مراكبها الروسية تمهيداً للقفز في مركب النجاة الأميركي في مؤشر إلى تبلور رؤية تركية تقول إن هذا الأخير هو الوحيد القادر على رفع مرساة الاقتصاد التي انقطع حبلها مؤخراً كما يبدو، وكذا هو الوحيد القادر على إطفاء الظمأ التركي الساعي إلى وأد «الخطر» الكردي على الحدود الجنوبية للبلاد، والراجح أن أنقرة قد حصلت على قبول أميركي أولي بإبعاد مقاتلي «وحدات الحماية الكردية» إلى مسافة تزيد على 40 كم عن تلك الحدود الأمر الذي يعني فتح بازار البيع لـ«العظم» الكردي بعدما أكل لحمه في مشهد عاشته دول وأنظمة عديدة كانت أهم بكثير وبما لا يقاس من «قسد»، وهذه الصورة تتأكد أيضاً في تصريح لافت جاء مؤخراً على لسان طلال سلو المتحدث السابق باسم قسد قبيل أن ينشق عنها أواخر عام 2017 وقال فيه: «إن قسد ستنهار والمكون العربي ستكون له كلمته ولن يرضى بتهميشه المستمر مقابل الهيمنة الكردية الاقتصادية والعسكرية» وهذا التصريح يمثل بالتأكيد وجهة نظر تركية راهنة وما كان لسلو أن يقول ما قاله إلا بتوجيه تركي يحدد النقاط والفواصل فيه.
هذه المتغيرات ستكون شديدة التأثير في مساري الأزمة السورية العسكري والسياسي وخصوصاً في هذا الأخير الذي بات مرجحاً حصول تحولات مهمة فيه أبرزها نعي جيفري لمسار أستانا بعد إخفاق جولته الـ12 قبل أسبوعين، قبيل أن يكشف في تصريح له في الأول من الشهر الجاري عن قرب انعقاد اجتماع للمجموعة المصغرة التي تضم إلى جانب أميركا كلاً من بريطانيا وفرنسا والسعودية ومصر والأردن تمهيداً لإحياء خيار جنيف الذي يعني عودة إلى توازنات أخرى جديدة مختلفة كلياً عن التوازنات التي قام عليها مسار أستانا، وهي في مضامينها تحمل محاولة لشل الكيان السوري وإفقاده عنصر التأثير الحيوي والطبيعي في محيطه.
في سياق متصل يبدو أن خطوة أنقرة «الزائدة» مؤخراً نحو واشنطن قد تدفع بموسكو إلى نسف تفاهماتها السابقة مع الأولى بما فيها اتفاق سوتشي المنعقد منتصف أيلول الماضي، فما تقوله التطورات الحاصلة في إدلب وحماة تشير إلى إمكان تطورها إلى عملية عسكرية كبيرة كانت منتظرة منذ آذار الماضي من شأنها أن تعيد إدلب إلينا بعدما تعدى خروجها سنواته الأربع العجاف.