ثقافة وفن

الله والحب

| إسماعيل مروة

الحب رسالة السماء، كما هو طبيعة الأرض، والسماء مهما كان رأينا واعتقادنا هي السمو المعنوي والرفعة، وما من شك بأن نواميس الطبيعة وجدت لجعل حياة الإنسان أكثر جمالاً، وأعمق حباً، وأجدر بالتشبث بها، وما من شريعة صدرت عن الدين والديّان إلا وكان الحب ديدنها، فالله اختار إنسانه، وقبل أن يصبح الاختيار تمييزاً وقهراً لشعوب من شعوب أخرى، كان اختيار الإنسان تفضيلاً له، واختياره خليفة في الأرض، والخليفة هنا ليس ناطقاً باسمه، وليس مطبقاً لما يفهم وبالطريقة التي يفهم، وإنما بمفهوم استخلاف من كان على هيئة جميلة ومفضلة وسامية… وكان الله في الشريعة محبة،الله محبة، وهل بعد الحب من صفة للألوهية التي اختارت المفضل لديها؟
وجاءت شريعة الإسلام لتعطي الحب ومعانيه بأبهى صورة وتجلٍ، وأعلى صورة جاءت في القرآن معبرة عن الحب هي القرب، فالله قريب ممن أحبه واختاره، لا واسطة بينه وبينه، مهما كان نوع هذه الواسطة (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) هذا القرب المعنوي هو أهم ما يحكم علاقة الحب العظيمة بين الله والعبد، واستخدم لفظ القرب من دون أي التباس أو مداورة، وهو قرب الحب ممن؟ من العباد الذين يطلبون عوناً، والذين يريدون قدرة الإله.. وثاني مظاهر الحب في النص القرآني هو الحب بلفظه، لعلاقة تبادلية في الحب بين الله والإنسان (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) فالحب احتمال، ولكنه تفاعلي تبادلي بين المحب والمحبوب، ولا يمكن أن يكون الحب من طرف واحد حتى في العلاقة مع الله، إن كنتم تحبون الله! فهل هناك من لا يحب؟ نعم هناك من لا يحب خلقه، وهناك من لا يتبع هديه ورسالاته، والهدي والرسالات ليس أكثر من دعوة للتحابّ، ويخطئ من يزعم أن الدعوة تتجاوز الحب، ولو قرأنا كل ما جاء في الرسالات فإننا لن نجد إلا الحب، حتى في العبادات التي جاءت في كل شريعة من شرائع الله غايتها النهائية هي الحب، فالزكاة تطهير يشترك فيه الآخر عندما نحبه ونتعاضد معه، وحين تتم مساعدته على تجاوز شظف العيش، فإن الحب هو الذي يهيمن ويسيطر، شريطة أن تكون العلاقة تبادلية لا تقوم على الاستغلال والمنّ والتفضل، وفي الجانب الآخر لا تقوم على الحسد والضغينة وضيق العين والحقد بما أنعم الله على هذا الإنسان.
والصلاة خضوع وحب وتقرب، ولا يمكن لمن يتقرّب إلى الله إلا أن يكون الله قريباً منه، وفي حالة الخضوع والتماهي والانعتاق يكون الرب أقرب ما يكون إلى عبده عندما يجأر له بصوت أو بهمس أو بإجهاش.
والحج انعتاق من الدنيا، ووقوف بثوب الطهر أمام المولى سبحانه، يأتيه فقيراً ولا يملك جيباًـ ومالاً، وهو الذي يحتضن بياضه ونقاءه، ويدلق في جوفه ماء هو الزمزم الصافي ليشعره بعمق الصلة والحب له وهو الذي انعتق من كل شيء إلا من الارتحال إليه في مكان محدد أو زمان محدد، وحكمة الحب منتصبة أمامنا، فإن لم يستطع فكأنه فعل، وإن عزم فكأنه فعل، فهل هناك مرتبة فوق هذا الحب الذي يمنح بالفعل وبغيره؟ والصوم تطهر واقتراب، سعي للوصول إلى التلاشي لأجل من تحب، وشعور بالإنسان الآخر وما يعانيه، مشاركة في الجوع والطعام، مشاركة في التطهر والوصول إلى لحظة واحدة في الكون يصل فيها الإنسان إلى مائدة من يحب، ورأس الإيمان بالحب الاعتراف بأن الحياة ليست ملكاً لنا، وأننا لا نملك أن نحاسب أو نعاقب، وإنما نسلّم ونحبّ ونفوض الأمر بعد أن شهدنا بوحدانيته وتحكمه بمصائرنا وسرائرنا!
ما من حب يعلو علاقة الحب بالله، فكل الحب واصل ومنهمر بين يدي المخلوق إلا إذا جاهر بكرهه لهذا الخالق، ومن هنا جاء الاحتمال إن كنتم تحبون، فهناك من يعجز عن حب الإنسان في صورة الخالق كما أراده، وهناك من يرى هيئته هي الأسمى والأعلى وعلى الناس أن يتخلوا عن صورهم لعلهم يشبهونه!
حب الله لعبده أو للإنسان فوق ما يمكن أن يتخيله عقل، سواء كان هذا العقل مؤمناً أم لم يكن، فهو يخاطب خلقه جميعاً، ولا يخص طائفة أو مذهباً أو فئة، يتوجه بخطابه للمؤمنين وغير المؤمنين لمطلق إنسان (وسخر لكم ما في السموات ومافي الأرض) ونردد في كل لحظة (سبحان الذي سخر لنا هذا)..! عندما يضع الله بين أيدينا كل شيء، ويسخر لنا كل شيء، نعرفه أو لا نعرفه، رأيناه، أم لم نره، أدركناه أم عجزنا عن إدراكه فقد بلغنا الغاية من الحب، وهو الذي سخر لنا ما في السموات والأرض، ليس هناك من شيء مستثنًى من أن يكون في خدمة المحب وهو الإنسان، فله وبحب الله كل ما في السموات والأرض، ولا يعنينا هنا من يقوم بالتخصيص ويحاول أن يقرأ النص الإيماني كما يشاء، فليس من إنسان مخصوص، وليس من شيء غير مسخر لخدمة الإنسان وقضاياه وحياته وحبه.
وبعد أن سخر لنا، للإنسان كل ما في السموات والأرض تحدث عمّا لا يحب، وإن كنا قارئين عقلانيين محبين للنص فإننا سنعرف أن ما لا يحبه الله هو ما يتعلق بالإنسان والحب بينه وبين أخيه الإنسان (لا يحب الله الجهر بالسوء) (إنه لا يحب الظالمين) ولو أمعنا النظر فإنه ما من شيء يغادر الحب، وما من شيء يتعلق بالله، فإنه لا يحب الجهر بالسوء، وفي حياتنا الجهر بالسوء إساءة للآخر وكرامته وحياته، والجهر بالسوء يتنافى مع الحب الإلهي الذي أراده بيننا، وإن لم نجهر بالسوء، فإننا سنكون متحابين… ولا يحب الظالمين، وما من عاقل يتهيأ له أن الظلم يقع على الله، بل الظلم الذي يقع من الإنسان على الإنسان، أما قرأنا يوماً (فلا تظالموا)؟ الظلم أيضاً علاقة تبادلية، فظالم ومظلوم في أي جانب كان، في شخصه، في حياته، في رزقه، في دمه، في اعتقاده وإيمانه ويقينه، الظالم لا يحبه الله لأنه يتجافى مع فطرة الحب العظيم الذي يجب أن يعيشه الإنسان الذي خلق من أجل الحب وليس للظلم.
وفي الحديث دعوات للحب لا تتوقف: تحاببتم، أفشوا السلام بينكم.. دلنا الرسول صلى الله عليه وسلم على ما إذا فعلناه تحاببنا: أفشوا السلام.. والقراء لهذا الكلام العظيم قرؤوه بأن يرتفع الصوت بإلقاء السّلام والتحية وهذا الأمر على أهميته ليس مقصوداً، وإنما المقصود أن يسعى الإنسان لتعم حياة السلام في كل الأرجاء، فالسلام إيمان وتسليم وحب، وهذا عكس ما نراه في كل تصرف من تصرفات حياتنا، فنحن نلقي السلام ونظلم ونطعن ونقتل ونسرق ونعتدي ونفسد في الأرض، مع أننا ندرك أن رحلتنا في الأرض قصيرة وبسيطة لا تتسع حتى للحب الذي أراده الخالق لحياتنا، ولو تفرغ واحدنا للحب وحده فإن الحياة ستمضي من دون أن ندرك جوهر الحب فما بالنا فيمن يترك هذا الحب ليعمل على قهر الإنسان وظلمه؟
أما نتقي دعوة مظلوم في جوف الليل؟
أما نرجو حباً في قلب الظلم والكره؟
أما نرجو سلاماً في قلب الحرب والدمار؟
هو الحب العطاء وقد قال (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) لقد خلقه لنا لنستمتع ونحب ونعيش، ولم يخلق ذلك له، ولا لأحد مخصوص، فلنتمثل هذا الحب الأسمى بين الله والإنسان، وأي حب آخر يمكن أن يكون محط استغراب إلا هذا الحب العظيم والباقي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن