ثقافة وفن

التراث السوري… الواقع والتحديات … ندوة تستعرض ما آلت إليه أحوال تراثنا مع الجهود الجبارة للحفاظ عليه

| سوسن صيداوي ت: أسامة الشهابي

ما تعرض له التراث السوري من انتهاكات للأسف لم تهز العالمية بطرف العين، الانتهاكات ليست في وجه حجر بهيئة أثر، بل هي انتهاكات صارخة تمسّ حياة كلّ مواطن عاش وسيعيش فوق أرض سورية لا محدودة بكليتها. ولأننا في وقت يتطلّب ألا تكون المبادرات فردية، لذا بدأت المساعي انطلاقا من المركز الوطني للفنون البصرية في دمشق وبالتعاون مع المديرية العامة للآثار والمتاحف، بإقامة ندوة حوارية بعنوان: التراث السوري /الواقع والتحديات/. حيث جرى تكريم الباحث بشير زهدي بتقديم درع له من المديرية، ولوحة فنية أصليّة تعود للفنان العالمي (تيتيانو) أحد فناني عصر النهضة، تقدمة من د. غياث الأخرس. وتناولت أيضاً الندوة محاور تشرح ما آلت إليه المواقع الأثرية من تخريب وتدمير، وكيف تم تدارك الأمر بشكل إسعافي على الرغم من كلّ التحديات، مع نقل وتغليف الآثار، مرورا بعودة افتتاح المتاحف، والأفق المطلوب عند إنشاء متاحف جديدة، مع شرح مستفيض لعمليات استرداد الآثار المهرّبة، وختاماً بعرض لإستراتيجية المديرية، مع حوار طويل، ركز على ضرورة دعم مديرية الآثار، وتأمين احتياجاتها من كوادر وإمكانيات، لتتمكن من القيام بواجبها في حفظ وحماية التراث السوري للأجيال القادمة.

د. غياث الأخرس
افتتح الندوة د. غياث الأخرس رئيس مجلس إدارة المركز الوطني للفنون البصرية بكلمة أكد فيها قوة انتماء الشعب السوري لثقافته واعتداده الكبير بها: «لم أر شعباً منتمياً لآثاره مثل الشعب السوري، لم أر شعباً ذواقاً للموسيقا و(سميّعاً) كشعبنا، وكلامي هذا جاء من المتابعة عبر ما يقدمه المركز من نشاطات، فمنذ أربع سنوات، أقمنا معرضاً للآثار المستعادة، لقد كان جميلاً جداً والجمهور أعجب به كثيراً، كنت بينهم لا كمدير بل كزائر، لمست حبهم الكبير لوطننا ومكنوننا الثقافي من خلال لهفتهم ودموعهم برؤية الآثار، كنت أسألهم والإجابة تكون بالشكوى لعدم تمكنهم من رؤية الآثار». مشدداً على تقصير الإعلام من هذه الناحية: «الإعلام مقصر، ونحن لا يوجد لدينا إعلام ثقافي، علينا العمل الجاد لوضع وثيقة عمل إعلامية-تعرض بشكل يومي على كل وسائل الإعلام-تجمع بين مديرية الآثار والمتاحف مع وزارة الإعلام ووزارة التربية ووزارة التعليم العالي، كي يتمكن طلاب الجامعات من حضور المتاحف ورؤية الآثار للتعرّف إلى موروثنا الثقافي والحضاري، لكون هؤلاء الشباب هم من سيبنون المستقبل». هذا كما هنّأ الأخرس المديرية العامة للآثار والمتاحف على جهودها الجبارة التي بذلتها خلال سنوات الحرب الثماني الماضية على سورية.

د. محمود حمود
على حين شكر د. محمود حمود المدير العام للآثار والمتاحف الدكتور غياث الأخرس، على مبادرته الجميلة والدّالة على التمسك الكبير بموروثنا الثقافي، مع ضرورة المحافظة عليها واستعادتها مع ترميم ما تعرض منها لكوارث تخريبية، كما أنها ساعية لرفع الوعي بقيمة تراثنا: «نحن نعاني من أزمة حقيقية لما نهب وخرّب ودمر من آثارنا سواء أكان في المتاحف أم في المواقع الأثرية».
وبالطبع تخللت المبادرة تكريما للباحث بشير زهدي أمين المتحف الكلاسيكي ثم الوطني في دمشق، لقرابة نصف قرن، وتابع د. حمود في حديثه عن الإنجازات العلمية للأستاذ زهدي والتي زادت على 150 بحثا، ونحو 15 كتاباً، قائلا: «نحن بهذه المناسبة نكرّمه بشكل رمزي، وأنا أشبهه بهذا الوطن الجميل والعذب، فهو بعطاءاته اللامحدودة كالتربة الخصبة، كان يعطي من دون أن يسأل عن أي مقابل، حتى إنه خلال عمله كأمين للمتحف لم يطلب سيارة، إنه نموذج للمواطن السوري الذي نعتدّ به ونأمل أن تتمثل به أجيالنا القادمة».
وبعد ذلك جرى تقديم درع إلى الأستاذ بشير وقدم د. الأخرس لوحة فنية أصلية للفنان العالمي (تيتيانو) أحد فناني عصر النهضة.

الباحث بشير زهدي
من جانبه أعرب الأستاذ بشير زهدي عن سعادته بتكريمه معتبراً هذا اليوم هو من أجمل أيام حياته: «في الواقع الفن يجمع القلوب والأفكار، وينقي النفس البشرية، ومما لا شك فيه أن كلية الفنون الجميلة أسهمت بهذا من خلال أساتذتها ومنهم على سبيل الذكر أ. محمود جلال، وأ. محمود حماد». مشيراً إلى أن مجلة الحوليات الأثرية السورية التي تأسست بمساعي د. سليم عادل عبد الحق، نشرت دراسات متنوعة وغنية جداً بدور الإنسان في بناء الحضارة».

د. مأمون عبد الكريم
ثم تابعت الندوة أعمالها فتحدث د. مأمون عبد الكريم عن إجراءات الحماية للتراث السوري في السنوات السابقة، مستعرضاً الجهود التي قامت بها المديرية منذ بداية الحرب والصعوبات التي كانت تواجه العمل، وكيف تمكن كادر المديرية من العمل على نقل مقتنيات العديد من المتاحف للحفاظ عليها من الدمار والخراب: «بعض المناطق تعرضت للتدمير بسبب الاشتباكات، وبعض القلاع اتخذت أماكن لارتكاز المسلحين، كما أن السرقات والنهب والتنقيب السري في المواقع الأثرية، سبّب تهريب آلاف القطع الأثرية خارج سورية، وهي الآن في تركيا وغيرها من الدول الطامعة بآثارنا، وسنحتاج إلى أكثر من خمسين عاماً لنتمكن من استعادتها، وهذا الإجراء هو من أكثر المعارك الصعبة التي سنخوضها». مشيراً إلى ما قامت به المديرية في خططها للحفاظ على الآثار، اليوم يحاول الكثير من الدول في العالم الاستفادة مما قامت به من إجراءات، وعلى رأسها السودان.

د. محمد نظير عوض
من جانبه تحدث محمد نظير عوض مدير شؤون المتاحف عن واقع المتاحف السورية وإعادة افتتاحها: «قبل الأزمة كانت كل المتاحف مفتوحة وفي كل المحافظات من دون استثناء، فلدينا في سورية 32 متحفاً في 13 محافظة، وفي بداية عام2012بدأت الأزمة بشكل عشوائي وتصاعدت الأحداث، ولم يكن لدينا أي خطة لإخلاء المتاحف في حال حدوث أي أمر طارئ، ولكن مع تصاعد الأحداث بدأت المديرية بالتحضير لنقل ما أمكن نقله، مع القيام بإجراءات التعليب والتغليف والقيام بتجهيز الأماكن الآمنة. وأيضاً قمنا بإصدار لوائح بالآثار، وتجاوزنا كل الصعاب، وبعد انتهائنا من خطة الإخلاء، ومع عودة الأمان انتقلنا إلى افتتاح المتاحف من جديد، في البداية تم فتح متحف طرطوس، ومن ثم متحف دمشق الوطني، وحالياً يتم التحضير لإعادة افتتاح متحف حلب، مع عودة دور المتاحف الاجتماعية والثقافية، إضافة إلى الجهود والمساعي القائمة من المديرية في وضع خطط لتحديد الأفق الجديد للمتاحف سواء عن دورها الحقيقي، أم شكلها وطرق بنائها وحمايتها».

د. أحمد ديب
من جانبه بين د. أحمد ديب مدير المباني في مداخلته عن واقع المدن التاريخية وتقييم الأضرار والخطط المستقبلية، مشدداً بأن أي مواطن سوري هو معني في المشاركة بالخطط التي تضعها المديرية وهذا شأن عام ويخص الجميع: «المبادرات الفردية يجب أن تتطور وتصبح مبادرات جماعية، والمساعي المبذولة في الوقت الحالي يجب أن تكون جماعية وشأن الجميع، أما بالنسبة لواقع المدن التاريخية والأثرية، فقد لفت إلى تعرض الكثير من المواقع الأثرية للتخريب والدمار وتهريب المقتنيات من العصابات الإرهابية، كما حصل في حلب وتدمر وقلعة الحصن ومعلولا، إلا أن المديرية قامت بعمليات إسعافية لمحاولة الحد من الأضرار قدر المستطاع، حيث بدأنا بأرشفة وتوثيق القطع الأثرية وفق المواصفات العالمية، كما بدأنا بتقييم الأضرار، بمساعدة ودعم من المجتمع المحلي، وهذه المساعدات الطيبة لا تقارن بالتعاون الخجول المقدم من اليونسكو والمنظمات العالمية».

د. همام سعد
على حين تحدث د. همام سعد في مداخلته عن الاتجار غير القانوني بالتراث الثقافي وقضية الاسترداد للممتلكات الثقافية: «موضوع استرداد الآثار شائك وصعب وهذا أمر لم نألفه في سورية ولكن مع بداية الحرب، أصبحنا نرى الآثار في السوق السوداء وعلى الإنترنت، وهنا أشير إلى نقطة مهمة بأن المساعي تكون لاسترداد القطع عبر شقين الأول دبلوماسي والثاني عبر المحاكم، والأخير مكلف للغاية، على حين الأول غير ممكن دائما، لانقطاع التواصل مع كثير من الدول والتي هي ساعية لآثارنا السورية، وتجدر الإشارة إلى أن تهريب الآثار قد تم ولاسيما عبر الحدود الشمالية والحدود الجنوبية، ومن جهة حدودنا مع العراق كانت طرق التهريب تتم على نطاق ضيق، وهنا أشير إلى أن الدولة العربية التي تعاونت معنا هي لبنان، وتمكنا من استعادة الكثير من القطع المهربة».

في ختام الجلسة
اختتم د. محمود حمود المدير العام للآثار والمتاحف الندوة، بعرض بانورامي لواقع الآثار السورية التي عاشت-بحسب تعبيره-تغريبة حقيقية أليمة أدت إلى فقدان جزء مهم من تراثنا السوري، متابعاً عرضه لإستراتيجية عمل مديرية الآثار خلال المرحلة القادمة ومنها نذكر: توثيق الأضرار التي تعرضت لها المواقع الأثرية، ومتابعة توثيق القطع الأثرية الموجودة في المتاحف، إنشاء متحف افتراضي على الشبكة حيث يستطيع الجميع أينما كانوا الاطلاع على القطع المتحفية المعروضة، العمل على وضع أطلس للمواقع الأثرية تعرّف بها وبأهم المكتشفات فيها، كذلك ومن الخطة الإستراتيجية للمديرية تركيزها بفتح علاقات جديدة مع الشرق كالصين واليابان وإيران وروسيا ودول أوروبا الشرقية، وتعزيز التعاون مع الجهات والبعثات التي وقفت معنا خلال الحرب ومنها البعثات اليابانية وبعض البعثات الإيطالية والألمانية والفرنسية وغيرها، كما ستعمل المديرية على إصدار قانون جديد للتراث السوري يواكب القوانين العالمية ويحمي تشريعياً هذا التراث، إضافة إلى بذل المساعي لتحويل المديرية إلى هيئة عامة تتبع رئاسة مجلس الوزراء ما سيعطي هذه المؤسسة استقلالية أكثر وإمكانيات أكبر.
وأيضاً ختمت الندوة بحوار طويل، ركز على ضرورة دعم مديرية الآثار، وتأمين الاحتياجات المطلوبة من كوادر وإمكانيات، لتتمكن من القيام بواجبها في حفظ وحماية التراث السوري للأجيال القادمة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن