عربي ودولي

السودان: خشية من تكرار سيناريو 1989

| عبد المنعم علي عيسى

في عالم السياسة السوداني الشفوي يروى أن رئيس «الجبهة الإسلامية» الراحل حسن الترابي وعشية نجاح ترتيباته في الانقلاب على حكومة الصادق المهدي وقبيل يوم واحد من الإعلان عن ذلك الانقلاب يوم 30 حزيران 1989، حدث أن جيء إليه بضابط مظلي اسمه عمر البشير وبعد أن تفرس فيه للحظات قال له: «ستذهب أنت إلى القصر رئيساً وأذهب أنا إلى السجن حبيساً»، وهو ما جرى فعلاً صباح اليوم التالي، فقد ذهب البشير إلى القصر الجمهوري وذهب الترابي إلى سجن كوبر في الخرطوم.
ترصد الحادثة السابقة مدى واقعية الترابي لكن الممزوجة بدهاء معزز بطموح لا يعرف حدوداً له، فمن جهة كانت الوقائع تقول إن انتخابات العام 1986 لم تعط الجبهة الإسلامية أكثر من 51 مقعداً أي أقل من 9 بالمئة من ثقل الشارع السوداني، ومن جهة أخرى كان مزيج الدهاء بالطموح يرى أن بالإمكان التعويض عن نواقص الثقل عبر هذا المزيج الأخير.
أفضت ذهنية المزيج إلى وجوب إخفاء توجهات الحكم الجديد ريثما يستطيع إرساء لبناته الداعمة واللازمة لاستمراره، كانت اللحظة آنذاك تسجل طبيعة مجتمعية قومية مشوبة ببقايا الناصرية في جزء منها وهي في نسيجها الديني تميل نحو نزعة الصوفية أكثر من أي شيء آخر، مع توجه لا بأس به ليبرالي الطابع لدى شرائح التكنوقراط والمهنيين والنقابات ومعهم بقايا الحزب الشيوعي الذي كان في السبعينيات أهم حزب شيوعي عربي على الإطلاق، ناهيك عن وجود مسيحي في الجنوب لا يناسبه بالتأكيد قيام حكم إسلامي «إخواني»، وما سبق كله كان قد دفع إلى إخفاء توجه الحكم الجديد، ولربما لم يكتشف الشارع ذلك أو يتأكد منه قبيل اجتماع الخرطوم نيسان من العام 1991 الذي أطلق عليه اسم «المؤتمر الشعبي الإسلامي الأول».
عبر هذا المؤتمر الأخير الذي جمع 500 من قادة ومفكري التيارات الإسلامية على امتداد العالم الإسلامي عن طموح للترابي عابر للحدود بل ويرقى إلى العالمية، ظهر ذلك في البرنامج «الطموح» الذي أقره فهو ببساطة أشار إلى مسعى لدى المجتمعين لتفكيك القوة الأميركية، بعد أن كانت القوة السوفييتية قد تفككت، وبذا فإن زوال الزائدة الدودية المسماة إسرائيل يصبح حينها تحصيل حاصل، كانت تلك الرؤية انتصاراً لتيار أسامة بن لادن الذي دعا، في مواجهة تيار الشيخ عبدالله عزام الذي اغتيل في بيشاور بباكستان 1989، إلى أن يكون التفجير شمولياً عبر إشعال الجبهات كلها دفعة واحدة على حين ارتأى هذا الأخير وجوب تمكين الإمارة الأفغانية والاستمرار في تحصينها، ولربما كان هذا هو المنطلق الأساس الذي اتجه إليه بن لادن في مساره الذي ذهب إليه.
بدت تراجم المشروع تظهر على الأرض بدءاً باستضافة بن لادن 1991-1996، ثم الإرهابي كارلوس الذي كان المطلوب الأول عالميا في التسعينيات، تلا ذلك تورط الجبهة الإسلامية في محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك التي جرت في أديس أبابا 1995، وما سبق كله كان قد وضع الدولة السودانية في مواجهة عالمية وصلت حدود وضعها على لوائح الإرهاب في كثير من الدول، الأمر الذي أجج الصراع داخلياً ما بين تيار الترابي وتيار البشير ليحسم هذا الأخير نتيجته لمصلحته في العام 1999 مستنداً في ذلك إلى ريع عصر النفط الذي دخلته السودان العام 1998 وعبره استطاع استمالة الكثير من قيادات وقواعد الجبهة الإسلامية إلى جانبه، ثم أن مشروع الترابي كان أكبر مما تحتمله قدرات السودان.
كان انفصال مشروع «القطرية» عن «العالمية» هو الذي أتاح استمرار حكم البشير لثلاثين عاماً قبيل أن تحدث احتجاجات كانون الأول الماضي التي انتهت بعزل البشير في الحادي عشر من نيسان الماضي، إلا أن القائد بالفعل وزير الدفاع السابق عوض بن عوف لم يستطع الصمود أمام ضغط الشارع لأكثر من 24 ساعة، ليجري التوافق على رئيس آخر للمجلس العسكري هو الجنرال عبد الفتاح برهان الذي كان الظن أن خلفيته الصوفية سوف تدفع إلى تهدئة مخاوف الشارع تجاه استمرار حكم الإخوان، إلا أن استمرار زخم الاحتجاجات يشير إلى إصرار الشارع على تفكيك دولة الإخوان العميقة التي تغلغلت في أوساط الدولة والمجتمع السودانيين عبر ثلاثين عاماً.
هناك اليوم خشيه حقيقية لدى قوى المجتمع السوداني من تكرار سيناريو العام 1989، بمعنى أن هذه الأخيرة تخشى أن يكون ظاهر الأحداث خادعاً أو هو يشير إلى اتجاه غير الذي تشي به حقيقته.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن