ليس غريباً أن يكون أبو الطيب المتنبي أحمد بن الحسين أحد السادة الذين يمكن أن نتعلم منهم الحب، والحب في أبهى حالاته وأعظم درجاته، فإذا ما استعرضنا أشعاره الكثيرة، وهو الشاعر الذي ذهب عن دنيانا في قمة الرجولة والعطاء، فإننا لن نجد قصيدة مخلصة للحب موضوعاً، فهو لم يتغزل، ولم يفرد للغزل باباً أو قصيدة، وهذا بحد ذاته علامة على الحب، فالحب عنده حياة وليس موضوعاً، وشاعر بمكانة المتنبي يمكن أن يقول غزلاً يذيب رقة، لكنه لم يفعل، وإذا ما استعرضنا آراء النقاد فسنجد عجباً في تفسير خلو شعره من الغزل، فتارة كان قاسياً عندهم وقرمطياً، وتارة كان محباً لخولة أخت سيف الدولة، ولم يجرؤ على قول شعر غزل فيها، واكتفى بامتداحها بعد وفاتها ليعوّض عن الغزل! وتارة هو شاعر مصلحة ومنفعة، لذلك عمد إلى المدح والحديث عن سيف الدولة وكافور للوصول إلى مآربه! ولعلّ أقرب الآراء هو ذلك الرأي الذي يتحدث عن طموح المتنبي في أن يكون والياً، وشعر الغزل قد يجعل جانبه ليناً، ويحول دون السعي إلى تحقيق طموحه المشروع!
إن طموح المتنبي هو قمة من قمم الحب الإنساني، فقد جعله هذا الطموح ذا همة وحكمة وحب، فهو لم يشأ أن يتحدث عن أم وأب وقبيلة وجدة، بل أراد أن يبدأ الحب من ذاته، وهذا ما يفسر أن المتنبي عندما رثى جدته امتدح نفسه، وأعطاها المكانة الكبرى ليس لأنها جدته، بل لأنها حظيت بالقرابة منه ومن شاعريته، وهو محق بذلك، فمن كان سيأتي على ذكر جدته لو لم تكن جدة لهذا الإنسان العبقري؟!
فمن يذكر أم أرسطو أو سقراط أو أفلاطون أو المعري أو غيرهم من العباقرة الذين شكلوا فواصل من حياة المجتمعات، ومن حياة أسرهم والمقربين منهم؟!
وهذا التخلي الطوعي الواعي، لا لسبب أخلاقي أو طبقي هو الذي جعل المتنبي يعطينا أعلى مثال في الحب، وهو الحب للذات، فهو من يعطي مثالاً صارخاً على أن الحب يبدأ من الذات ولها، ولا يمكن للإنسان أن يكون محباً لأحد إن لم يكن محباً لذاته، ولا يكون محباً لذاته إلا إذا حضّ هذه الذات على أن تكون بذاتها ولذاتها، وأن تترك أمر المباهاة بالجذور والأصول والفروع جانباً؟!
واليوم نجد الأمثلة صارخة على عظمة حب المتنبي، وتقزّم حب الآخرين الذين يدعون الحب..
ولست بقانع من كل فضل بأن أعزى إلى جدّ همام
ليس مهماً أن يكون جدك عظيماً كما يقول المتنبي، إن لم تكن أنت صاحب قيمة ومكانة ويعجب المتنبي من ذلك الذي يعتمد على أصوله وجدوده، بينما هو يقنع بأن ينسب إليهم!
لست بقانع.. لا تقنع روحه الطامحة المحبة، بل المغرورة إيجاباً بأن يكتفي بعظمة جده، بينما هو لا شيء، وعليه أن يكتفي بالنسب!
حينما تكون بهذا المستوى من الحب والغرور، فإنك ستقدم شيئاً مميزاً وخاصاً، فإن كان جدك وأصلك في مكانة مهمة، فإنك ستغني ما جاءك منهم، لتبني لنفسك أولاً وللقادم بعدك ثانياً.
أما إذا قنعت بعظمة جدك وأصلك، فإنك ستمضي عمرك تستهلك هذا المجد الذي قد يكون عظيماً، وقد لا يكون شيئاً، لتصبح بلا ماض ولا حاضر، ومن دون أن تؤسس للمستقبل الذي من المفترض أن يكون غايتك، كما كان غاية جدك- إن كان عظيماً وهماماً-!
إن هذه الرؤية في الحب هي أعلى الدرجات في الإنجاز والحضارة وحب الذات ليكسب الإنسان خلوداً مختلفاً، وهذا ما أعطى المتنبي مرتبة لم يصل إليها غيره من الشعراء والأدباء على مر العصور والتاريخ.
المتنبي يطرح إشكالية خطيرة في الحب، وهي حب الذات ودوره في الإنجاز وبناء الحضارة، وهو بذلك يرد على كل الذين يتحدثون عن الغرور بأنه ظاهرة سلبية ومرضية، وأثبت أنك إن كنت مغروراً تصل إلى مرحلة التأليه المعنوي البشري، وليس يقنعك بعدها أي شيء في الحياة، بل يجعلك إنساناً مختلفاً في سيرتك، لأنك تحترم غرورها وعظمتها وحكايتها، ومن هنا تأتي أهمية الخبر الذي تناقلته الكتب عن صفات المتنبي حيث يقولون: له ثلاث خلال حميدة: ما كذب، وما زنى، وما لاط.. والذي دفعه إلى ذلك هو غروره وحبه لذاته واحترامه لها.. ويقولون: وله ثلاث خلالٍ ذميمة: ما صلى، وما صام، وما قرأ القرآن، وقد تكون الصفتان الأوليان حقيقة أما الثالثة فحقيقتها بالفهم والتفسير لا بأي شيء آخر، فهو ما قرأ القرآن قراءة تعبد لأنه لا يصلي ولا يصوم، أما عن قراءة القرآن، فالكتب والمنطق يؤكدان أن القرآن يجري على لسان المتنبي، وهذا ما أعطاه هذا التفوق، ولا يمكن لمن لم يقرأ القرآن أن يكون بهذا المستوى والمكانة والبلاغة!
كم نجد اليوم في زماننا من يتحدث عن الحضارة الإسلامية؟ كم نسمع اليوم في زماننا من يتحدث عن الحضارة الإسلامية؟!
كم نسمع من غناء عن التفوق العربي؟! كم نغني، ونحن نعرف أن الجزء الأكبر من الذي نغنيه ونتغنى به ليس حقيقة؟!
لو وعينا المتنبي لكان ديدننا العمل وبذل الجهد للوصول إلى الغايات النبيلة، بينما نحن تغنينا وقنعنا بأن أجدادنا الحضاريين كانوا مختلفين ومتفوقين، فأحرقنا تاريخهم الغني العظيم، ولم نضف إليه شيئاً، وفوق استهلاكه أعطينا صورة رديئة عن تراثنا الذي كان عظيماً في وجه من الوجوه، وليس في كل أوجهه!
من هنا تأتي مشروعية الأسئلة المطروحة والمؤلمة؟
هل كان أجدادنا عظماء؟ هل ينتمي المسيحيون اليوم إلى يسوع؟ هل ينتمي المسلمون اليوم إلى محمد والإسلام؟ هل نتمثل هؤلاء حقيقة؟
وعندما كانت الإجابات سلبية، وصلنا إلى مرحلة خطرة تتجاوز السؤال عن انتمائنا، بل وصلت إلى حد الشك بأولئك، والسبب عدم الحب، والذي أراده المثال الحي لنا، لكننا لم نعمل!
والحب عند المتنبي علاقة تبادلية يجب أن تحظى بالعناية من المتحابين، أما إذا كان أحد الطرفين ناكراً أو جاهداً فالحب جنابة، والقلب المحب يكون خائناً للإنسان الذي يمتلكه، ومع قسوة ما يخلص إليه المتنبي إلا أننا نجده مقنعاً ومنسجماً، والحب الحقيقي ينسرب في ثناياه لنشاركه موقفاً ورأياً:
كفى بك داء أن ترى الموت شافياً وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا
تمنيتها لما تمنيت أن ترى صديقاً فأعيا أو عدواً مداجيا
حببتك قلبي قبل حبك من نأى وقد كان غداراً فكن أنت وافيا
وأعلم أن البين يشكيك بعده فلست فؤادي إن رأيتك شاكيا
فإن دموع العين غدر بربها إذا كن إثر الغادرين جواريا
الحب عند المتنبي ليس عاطفة وليس مرضاً، وإنما هو إحساس وعلاقة تبادلية بين طرفين، إن لم تتحقق هذه المعادلة، فهذا لا يعني انتفاء حالة الحب، وإنما يعني ابتعاد المحبوب الذي لا يستحق صفة الحب، وما من شخص أتى بهذه الصفة سوى المتنبي، لأن حالة الحب إن تملكت في الإنسان تجاه من لا يستحق، فإنها ستحوّل جزءاً من الإنسان إلى غادر يفتك بالإنسان، ويصبح القلب غادراً لمن يحمله من أجل من لا يستحق! ألا يستحق أن يكون المتنبي العارف والقارئ؟
هذه الرؤية التي كانت للمتنبي ولم تكن لسواه جعلت الحياة كلها حباً للذات، وسعياً لعظمتها، وجاء في السياق ذاته:
إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم
وجاء اعتداده بذاته وحبه لها، على الرغم مما حيك حول القصة من حكايات لاستدرار العطف أو الإدانة:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
هذا الغرور الإيجابي الذي يتملك كل واحد منا، ولكننا نأخذه على المتنبي، وذلك لسبب مهم هو أن المتنبي أعطى قوله وعمل من أجله، أما نحن فنملك أضعاف هذا الغرور، ولكننا نحمل عجزاً لا مثيل له عن تحقيق أي شيء!!
إنه الحب والمحب، وبدل أن يباهي بالحضارة، فقد ندب وفي مرحلة مبكرة من حياة الأمة غياب القدرة والفعل لحضارته بسبب عجز أبنائها، ففي شعب بوان رأى العجمة مسيطرة فدفعه حبه للعرب والعربية للقول دون أي مواربة:
ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان
لأنه أحب ذاته بقي.
ولأنه أحب الإنسان علمه الحب.
ولأنه أحب حضارته أضاف إليها ولم يبكها وحسب.