قضايا وآراء

بين هرمز وريفي حماة وإدلب: الانتصارات لا تُنتَزع بالصراخ

| فرنسا ـ فراس عزيز ديب

إذا أردنا أن نعرِفَ ماذا يجري في مضيقِ هرمز على الخليج العربي، فعلينا أن نعرفَ ماذا جرى في جلسةِ مجلس الأمن المخصصة لمناقشةِ الوضع في ريفي حماة وإدلب، في ظلِّ التقدم الكاسح للجيش العربي السوري على حسابِ تنظيم جبهة النصرة والتنظيمات الإرهابية المتحالفة معها.
كِلا الحدثَين صورةٌ لتوصيفٍ واحد: اطمئنوا عندما يَكثُر الصراخ.
لم تأتِ دعوةَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب للإيرانيين للجلوسِ إلى مائدةِ المفاوضات على اتفاقٍ جديد بشروطٍ أميركية باختلافاتٍ عن تهديداتهِ السابقة لهم بالحرب، ربما الاختلاف الوحيد هذه المرة هو كلامُ الغزل بالإيرانيين وتأكيده السعي لضمان ازدِهارهم الاقتصادي. أما الجانِب الإيراني الذي يرفع عادةً رايةَ مخالفة الرغبات الأميركية حتى ولو تعلق الأمر مثلاً بالسعي الأميركي لتصنيف مجرمي الإخوان المسلمين بالمجموعة الإرهابية، فإن تهديدات و دعوات دونالد ترامب تلك لا تبدو إنها ستبدل قرارهم تجاه التمسك بالاتفاق الحالي وحسب، لكنهُ تعداها للتعاطي بأسلوب الفرصة السانحة لرفع الصوت وسقف التهديدات حتى بدا أن كلا الطرفين اشتركا في نقطةٍ واحدة ليظهرا كمَن يرسم خطوطاً في الهواء ويمحوها، فكيف ذلك؟
منذُ أن قرر دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران وإعادة وضع سلاح العقوبات موضع التنفيذ بذريعة عدم أهلية الاتفاق لضمان لجم طموحات إيران بما يتعلق بالصواريخ الباليستية، كان واضحاً أن السلاح الذي يمتلكه ترامب لا يختلف عما فعله أسلافه من الإدارات الأميركية السابقة، ولا يتعدى فرضيةَ تشديد العقوبات الاقتصادية لكي تكون هذه المرة في إطارٍ أشمل، أو ما يمكننا توصيفها بالعقوباتِ التي تُوجع الإيراني. حتى الحديث عن (إغلاق مضيق هرمز في وجه صادرات النفط الإيرانية) فهناك من فسرهُ عملياً بطريقةِ التهويل، كالسعي الأميركي للسيطرة عسكرياً على طريقِ إمدادات النفط الذي يشكِّل مضيق هرمز أحدَ أهم مكوناته.
لكن واقع الأمر أن الأميركي ليس بهذا الغباء الذي يبدو فيهِ كمن يتحدث عن السيطرة بمفهوم «الجمركي أو الشرطي» المُسيطر على حركة العبور في المضيق، بل كان يتحدث عن إغلاق المضيق في وجه الصادرات بمفهوم تشديد العقوبات ليس فقط على الشركات الإيرانية ولكن على كل من يتعاطى معها بما فيهم الدول الحليفة له، ليصبح النفط كاسداً فتخسر إيران عصب اقتصادها، فالأميركي يدرك تماماً إن فكرةَ السيطرة على المضيق عبر أسلوب البلطجة العسكرية هو انتحار، قد لا يلجؤون له إلا عند حدوث المواجهة الكبرى لكن حتى في تلك اللحظات لا يمكن للأميركي أن يترك قطعاته البحرية في مرمى النيران الإيرانية.
أما الجانب الإيراني فقد أحسن استثمار الموقف المتمثل بالتخبط الأميركي على أحسنِ وجه وفي إطارين اثنين:
الإطار الأول: تمثّل بإظهار الولايات المتحدة كدولةٍ مارقة لا تلتزم بتعهداتِها الدولية، بل يصل بها الأمر لتهديد حلفائها في حالِ عدم انسحابهم من الاتفاق، من هنا يبدو أن الكلام الذي يُحكى عن نية إيران الخروج عن الاتفاق جزئياً أو كلياً في حال إصرار الولايات المتحدة على موقفها كلام لا معنى لهُ، الخروج الإيراني يجب أن يكون مستتبعاً للخروج الأوروبي ولا يسبقه، فالأوروبيون اليوم يعيشون أسوأ لحظاتهم، فلا هم قادرون على إعلان الانسحاب ولا هم قادرون على الوقوف بوجه ضغوطات دونالد ترامب وانسحاب إيران من الاتفاق يعني ببساطةٍ كمن يرسِل لغريقٍ طوقَ نجاة.
الإطار الثاني: تمثَّل بالإغراق الإعلامي لكلّ ما يمثِل فكرة وقوف إيران «عسكرياً» بوجهِ الأميركي، من الحديث عن عبور ناقلات النفط برفقة الحرس الثوري الإيراني دون أن تعترضها البوارج الأميركية التي لا تملك في الأساس صلاحياتِ منعها، وصولاً لفرضية التهديد والتهديد المباشر بالرد السريع والحازم في حال أقدمت الولايات المتحدة على حماقةٍ ما.
هكذا ارتسمت بالخطوط العريضة حدود الصدام الأميركي الإيراني الذي لن يتجاوز حدود التهديد والتهديد المضاد، القضية هنا ليست مرتبطة فقط بقوةِ الردع الإيرانية تحديداً أن الأميركي في حربٍ كهذه يعي أنه سيكون أقل الخاسرين، لكن هناك ما هو أهم، فدونالد ترامب نفسهِ ليس رجلَ حرب، ولعل كلامه عن دعوة الإيرانيين للعودةِ إلى المفاوضات على الطريقةِ الكورية الديمقراطية هو نوعٌ من التهدئة حتى في مجال التصريحات فما هي حدود نجاحِ دعواتٍ كهذه؟
علمتنا التجارب السابقة صحةَ المقولة بأن ثمنَ الوقوفِ بوجهِ أميركا أقل بكثيرٍ من ثمنِ التبعية لها، فالأميركي عملياً يُفاوض في إطارٍ واحد فقط وهو سحب نقاط القوة لدى الطرف الآخر، وهو حكماً ما لا تقبل بهِ إيران لأنها ستخسر لمجردِ قبولها بمبدأ إعادة التفاوض، لذلك تبدو فرصَ نجاح هكذا فرضيةٍ بعيدةَ المنال. أما الحديث عن رسائل تلقاها الإيرانيون من شركائهم الأميركيين في الحزب الديمقراطي والذين فيما يبدو لا ينتمون لسياسة «الشيطان الأكبر»! يحثونهم فيها على الصمود حتى موعد الانتخابات الرئاسية القادمة فهي تبدو عملياً رسائل ساذجة، فكيف سيضمن هؤلاء مثلاً أن ترامب لن ينجح لولايةٍ جديدة؟ علماً أن أرقام الرجل بما يتعلَّق بالاقتصاد والبطالة جيدة جداً، بالإضافةِ للخدمات الجلية التي قدمها للكيان الصهيوني من الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل والانسحاب من الاتفاق النووي فكيف يتنبؤون بسقوطهِ؟ إلا إن كان اللوبي الإسرائيلي قرر عدم التدخل بمصير حاكم البيت الأبيض!
كفى تهويلاً للحرب، فالمدمرة الأميركية التي دخلت مياه الخليج دخلتها لأن هناك من سيدفع فاتورة استعراضها، والمعلومات الإسرائيلية عن هجمات إيرانية محتملة هي نوع من رفع الشحن الذي يريده كل من الإسرائيلي وبعض مشيخات النفط لا أكثر ولا أقل، فلا حرب في الأفق وكل ما سيجري هو عملياً استكمال لسياسة المواجهة الأميركية الإيرانية في المنطقة إما بالتصريحات أو في ساحات صراعٍ مفتوحة فأين الساحة السورية من ذلك؟
خلال سنوات الحرب على سورية جهدَ الإعلام الغربي لتضخيم «الدور الإيراني» في سورية تحديداً بما يتعلق بسير المعارك، كانوا يريدون تشكيلَ صورة عامة تجعل من الوجود الإيراني مادة للتفاوض وبمعنى أدق ورقة تصنع انتصاراً وهمياً حال قررت القيادة السورية الطلب من إيران سحب مستشاريها العسكريين من سورية. لكن بذات الوقت لنعترف بأن الإعلام الغربي ليس وحده من يقع بهذا المطب أو على الأقل قد نبرر هذه المغالاة لأن هذا الإعلام في النهاية لا يخدُم قضية بل يخدم مشغليه، لكن ماذا عن الإعلام أو الإعلاميين الذين يسمون أنفسهم مقاومين ويقومون بتعظيم هذا الدور لدرجةِ جعلهِ مادة قابلة للتفاوض بين كل من إيران والولايات المتحدة؟
إن إدراج الأميركيين للانسحاب الإيراني من سورية ضمن الشروط التي يريدونَ تحقيقها لنزع فتيل التصعيد مع إيران تبدو فكرة عقيمة تُضاف للصراخ الذي نسمعه في مضيق هرمز، بل تضاف لصراخ الغرب الإنساني الذي نسمعه منذ انطلاق عملية تحرير أرياف حماة وإدلب، كذلكَ الأمر يبدو كطُعمٍ إعلامي يقع فيهِ كثر عن جهلٍ أو قصد وإن كنا مضطرين أحياناً لرفع صفة «الجهل» عن الذين يسمون أنفسهم «نُخباً عربية»، طعمٌ لا يشبههُ إلا التساؤلات التي يطرحونها بمكرٍ هم ذاتهم عندما يبدأ الجيش العربي السوري والقوات الرديفة عمليةَ تحريرِ منطقةٍ ما:
استلامٌ وتسليم أم قرار ببدء المعارك لتحرير الأرض والمدنيين المحتجزين كرهائن لدى التنظيمات الإرهابية؟
الجواب هنا بسيط، فبالطريقة ذاتها التي نذكّر فيها بالفرضية التي تقول إن من سيحارب لا يملأ المنطقة ضجيجاً وصراخاً، فإن من يقوم باستلامٍ وتسليم لا يزف الشهيد تلو الشهيد، قد تتقدم وتتراجع المعارك تبعاً للرؤية العسكرية، لكن قرار الإنهاء لن تؤثر فيه تخوفات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من تكرار سيناريو حلب، و لا توسلات وزير حرب النظام التركي خلوصي أكار بوقف تقدم قوات الجيش العربي السوري، وبمعنى آخر:
من هرمز على الخليج العربي إلى مجلس الأمن المتباكي على التنظيمات الإرهابية، كلما زاد الصراخ اعلموا أن هذا الصراخ هو آخر ما تبقى لعدوِّكم من سلاح طالما أنهُ لا يقوى على المواجهة، لكن تقتضي المروءة بين الفينةِ والأخرى أن نذكر الجميع بالحكمة القائلة: ليس بالصراخ وحده يُنتزع الانتصار في المعارك.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن