على عكس «ما يشاع»، لا يخلو القرض الشخصي ذو المليوني ليرة الذي أطلقه المصرف التجاري مؤخراً، من «محاسن جمة»!
نصف كأسه الملآن، يتلخص في اليقين المسبق بأن أحداً لن يتقدم إليه، فبمجرد النظر إلى حجمه وضماناته وآليات استرداده، تتبدى طبيعته الاستهلاكية التي لا ينقصنا مزيد من تنشيطها في هذه الآونة من عمر اقتصادنا المتكلس المهدد بالذوبان مع كل رطوبة «طارئة» تدنو منه.
النصف الملآن الآخر من قرض «أبو المليونين»، يمكن لمحه إذا ما استنهض المرء فطنته الفطرية محاولاً استنباط «شعار ملهم» يليق به على دارج السياسات الترويجية للشركات والمصارف، فلو طلب المصرف التجاري -مثلاً- تسمية لائقة لاعتمادها كـ «سلوغان» لمنتجه الجديد، فلا أنسب من «القرض الكاشف» لتجدد الواقع المزري الذي يعيشه قطاعنا المصرفي، بفضل الإضافة الجديدة الفارغة لحلقتنا المفرغة من القروض الإنتاجية التي دفقتها المصارف الحكومية خلال السنوات الأخيرة بلا جدوى!
فلسفة الكأس الملآن بنصفيه هذه، تتأتى من العجز المحمود لمصارفنا الحكومية عن تمرير مساعيها لتحقيق الأرباح من باب تعزيز الاستهلاك، إثر عجزها عن ذلك من خلال تمويل العمليات الإنتاجية!
هذا الطراز من التكتيكات المتعبة المقوسة الظهر، تكشف بوضوح رؤية المصارف الحكومية لذاتها بمعزل عن الاقتصاد الوطني غير آبهة بما سيكرسه شراء الركود المتزاحم حالياً في الأسواق بركود مستقبلي أكثر حدة، كما يعكس استسهالها ترميم أرباح الأسواق ورجالاتها عبر الإقراض الاستهلاكي لذوي الدخل المحدود، تعويضاً لخسائر الأخيرين الناجمة عن الركود تارة، ولخسائرها المتسربلة من بور مخيلتها في ابتداع طرائق مناسبة لتمويل القطاع الإنتاجي كشرط سرمدي لإصلاح هيكلية الاستهلاك والنقد الوطنيين معاً، تارة أخرى!
الظروف الموضوعية وحدها من سيجنبنا مهزلتنا المصرفية الجديدة من طراز «أبو المليونين»، فحال جماعة الدخل المحدود المتردية حتى النخاع، لم تترك لهم من قدرة كافية على تمويل أرباح المصارف ولا على دعم مبيعات التجار، لذلك، وإحقاقاً للحق، يجدر النظر إلى شروط الاسترداد الطاردة في قرض «أبو المليون»، كنصف كأس ملآن يعكس جهداً بنّاءً يستحق كيل المديح لإدارة المصرف التجاري جراء سهرها على تدبيج منتجات جديدة يستحسن ألا يتوافر زبائن لها في المدى القريب!
أما «الكاشف» في قرض أبو المليونين، فيتأتى من دوره في إعادة تذكيرنا بأن الميول المرضية لإستراتيجياتنا المصرفية في إعادة تدوير الفراغ مراراً وتكراراً خلال السنوات الأخيرة ما زالت مستمرة في تعاكسها مع تطلعات الاقتصاد الوطني إلى تعافي تمويل الإنتاج كشرط مسبق لتعافي الإنتاج، وبأنها ستبقى في المدى المنظور أسيرة سلسلة من الرؤى المتجسدة في قروض لن يتقدم إليها أحد!
في المختصر، لا يشذ قرض أبو المليونين عن إستراتيجية ملء خواء التمويل المصرفي القائم بخواء جديد، هذا الحال، ورغم تمظهره للبعض كنصف كأس فارغ، فإن تدقيق النظر جيداً في أهدافه أولاً، وبفشله في تحقيقها ثانياً، قد يشي بامتلائه إذا ما استطاع استنهاض حمية أصحاب القرار وتحفيز إحساسهم بأن الوقت حان للتخلي عن إستراتيجيات التمويل القائمة، والانقلاب على واقع «الطبل بحرستا والزمر بمنين» الذي يختزل العلاقة بين النجاحات المزعومة لقطاعنا المصرفي، ومستقبل اقتصادنا الوطني.